Thursday 1st December,200512117العددالخميس 29 ,شوال 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "مقـالات"

الخروج الأمريكي بعد إنجاز الخرابالخروج الأمريكي بعد إنجاز الخراب
د. فوزية عبدالله أبوخالد

علامة همجية فارقة:
لابد أنه سيأتي يوم تقرأ فيه الأجيال ما حدث وما يحدث في المنطقة العربية وبالتحديد الحرب الأمريكية على العراق قراءة تاريخية لا تختلف عن قراءة التاريخ لأقسى الحروب فظاعة وتدميرا، فمقتل مائة ألف من الشعب العراقي بنسائهم ورجالهم وأطفالهم من كل مدينة ومن كل قرية ومن كل حارة ومن كل بيت على أرض العراق في أقل من ثلاثة أعوام بما لا يمكن في كثافته العددية للفترة الزمنية التي تم بها إلا أن يشكل إبادة جماعية في التصنيف العسكري لجرائم الحروب، وهو بذلك ليس كارثة إنسانية بكل المقاييس القانونية والعرفية والأخلاقية التي تعارفت وتتعارف عليها جميع الشعوب والأديان والحضارات منذ فجر الحياة البشرية الأول إلى اليوم، ولكنه أيضاسفر تاريخي مكتوب بالدم والمواد الحارقة، ولابد أن يوماً سيأتي تسجل فيه الحرب الأمريكية على العراق كعلامة همجية فارقة للمرحلة المعاصرة تضاف إلى تلك العلامات المظلمة في تاريخ المجتمع البشري مثلها مثل خراب بغداد على يد التتار، وإبادة الهنود الحمر بأمريكا الشمالية ومحاكم التفتيش في أوروبا، وما لا حق بشعب فيتنام من بشاعات الاستغلال على المستوى الإنساني وليس على المستوى العسكري وحسب، وما لحق بالشعب الفلسطيني من اقتلاع وتقتيل جمعي على يد الصهاينة عام 48 وما بعدها.
ففي المراجعة التاريخية للحرب الأمريكية على العراق لابد أنه سيكتب أن هذه الحرب مثلها مثل صهاريج الغاز في الحقبة النازية فهي لا تختلف فيما يتابعه العالم اليوم بالصوت والصورة عن بعض ما يتسرب من تراجيديا مشاهدها عما كتب عن (الهولاكوست) التي لا تزال كل شعوب الغرب تحمل ندم دمائها، كما لابد أن التاريخ سيكتب أن هذه الحرب لا تختلف في إجرامها العسكري وبشاعاتها عن جريمة هيروشيما ونجازاكي من قبل أمريكا أيضا في حق الشعب الياباني عندما تركت القنابل الذرية التي ألقيت على المدينتين للتجريب السكان أشباحاً لهياكل عظمية يسيل نخاعها وبؤبؤ عيونها ونسيج رئاتها على سواد الدخان.
سيناريو لا يخلو من اختلاط الأوراق:
على أنه رغم هذه الصورة المتناهية في دقة إنجاز الخراب على أرض العراق من قبل القوات العسكرية الأمريكية فإن هناك منا من كتابنا ومحللينا على امتداد الوطن العربي من يكتب عن الخبر الأمريكي الأخير المتعلق بموضوع بدء الانسحاب الأمريكي المحتمل من العراق للعام 2006 من خلال سيناريو واحد مستبد لا ثاني له، وهذا السيناريو يرى إن إقدام أمريكا على الحديث العلني عن فكرة الانسحاب إنما هو استجابة (مفاجئة) للضغط الداخلي الذي تتعرض له أمريكا من قبل بعض قواها الاجتماعية، وفي هذا السياق يجري الحديث عن التصويت الذي جرى في يوم 15-11 بمجلس الشيوخ الجمهوري بأمريكا على الاقتراح الذي قدمه عضوان بارزان فيه هما بيل فريست وجون وورنر، حيث قالت غالبية 79 صوتا مقابل 19 بانسحاب القوات العسكرية الأمريكية البالغ عددها 160 ألفا من العراق، كما في سياق الاستشهاد نفسه يساق موقف الديمقراطيين المعارض لاستمرار القوات الأمريكية في العراق متمثلاً في موقف العضو الديمقراطي في الكونجرس جون مورثا يوم 18-11 الذي وصف (الحرب على العراق بأنها سياسة خاطئة مغلفة بالوهم)، وإذا أضيف إلى ذلك ما يظهره الإعلام الامريكي من تدني نسبة تأييد الرئيس في الشارع الأمريكي حسب استطلاعات الرأي الأخيرة، وارتفاع عدد الأمريكيين ممن يرون خطأ قرار الحرب إلى 60%، فإن أصحاب هذا السيناريو لا يرون في الإعلان الأمريكي التفكير في الانسحاب من العراق إلا تأكيدا للديمقراطية الأمريكية على المستوى الداخلي على الأقل حسب قراءتهم هذه لسيناريو الانسحاب، إلا أن ما يؤخذ على مثل هذا السيناريو هو أنه ضعيف الذاكرة من ناحية، كما أنه ضعيف البصر إذ لا يرى في مشهد الحرب إلا نصف الصورة الأمريكي، بينما تغيب عنه صورة العراق، كما أنه يفتقد لمقومات السيناريو لأنه لا يشير من قريب أو بعيد لاحتمالات ما بعد الانسحاب سواء في امريكا أو في العراق، أو في تأثيراته على ما تسميه أمريكا بحربها على الإرهاب وتهديداتها المبطنة والمعلنة لإيران سابقاً ولسوريا سابقاً وحالياً.
وهو سيناريو ضعيف الذاكرة لدرجة بأنه لا يستطيع التذكر أن قرار الإدارة الأمريكية بالحرب على العراق لم يكن يفتقد فقط إلى الشرعية الدولية بل إنه كان أيضاً يفتقد للشرعية الأمريكية الداخلية حيث كانت هناك معارضة، كما كان هناك تشكيك كبير على عدة مستويات شعبية ورسمية في ضرورة أو جدوى الحرب الأمريكية على العراق، وإلا لما اضطرت الإدارة الأمريكية لاختلاق (عدد من الخرافات)، أو ما يسمونه بالإنجليزية (Myths) تبرر بها غزو العراق. فمن خرافة أو بالأخرى الكذب البواح ب(حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل) إلى القول بالعلاقة بين صدام وبين القاعدة، ومن القول بالإطاحة بصدام إلى القول بمجيء الجيش الأمريكي حاملاً على الدبابات راية تحويل العراق إلى نموذج لدولة ديمواقراطية على الطريقة الأمريكية تحتذي به المنطقة، هذا فيما لم تصمد أي من تلك الخرافات الأمريكية المختلقة على أرض الواقع، ويصاحب ضعف الذاكرة عند أصحاب هذا السيناريو، كما أشرنا سابقا عدم رؤيتهم لكارثة العراق وشعب العراق، ولذا فهم لا يتورعون عن توسل أمريكا السؤال في شأن التدخل الإيراني والتصادم الانقسامي دون أن يخفوا أملهم بألا تنسحب أمريكا قبل أن تنجز هدفها من غزو العراق الذي هو بحسب حسن ظنهم إيصال فانوس الديمقراطية إلى كل بيت وحارة في العراق بعد أن قطعت عنهم الحرب وفظائع الاحتلال الماء والكهرباء وأغرقتهم في نوافير الدم، وبعض أدلة ذلك البسيطة أنه في فيلم وثائقي جديد عن (الحال اليومية لمأساة شعب العراق يظهر المخرج وهو يسأل أعداداً كبيرة من المشردين بين المدن والقرى لا يحملون من زاد الدنيا إلا أطفالهم على خصورهم، عن مشاركتهم في الانتخابات فيصرخون باستغراب أية انتخابات؟) إذا إن من الواضح أن رعب تدبير يومهم في ظل الاحتلال لم يترك لهم فسحة صغيرة ليسمعوا أصلاً بوجود انتخابات.
ومع التأكيد أن المخرج الوحيد للعراقيين من وحل الحرب الأمريكية لا يمكن إلا أن يكون المخرج الديمقراطي مثل العراق في ذلك مثل أي مجتمع معاصر يصعب الحفاظ على لحمته الوطنية وتحقيق العدالة والمساواة والحرية له بدون الديمقراطية، فإننا لا نظن حسب الشواهد العملية أن ذلك قابل أن يتحقق عن طريق أمريكا.
أسئلة يقترحها الانسحاب:
وربما على هذا السيناريو وأمثاله أن يلحظ ما يقترحه الموقف من أسئلة قد تساعدنا على أن نرى أو على الأقل نتلمس العلاقة بين الحرب والانسحاب فلا نبلع طعم الاستسلام في الحالتين.
- فهل يمكن أن يعتبر طرح فكرة الانسحاب الأمريكي من العراق في هذا الوقت نصرا رمزيا للمقاومة العراقية؟
- هل تعبر الفكرة عن هروب أمريكي من مستنقع الحرب بعد أن وجدت نفسها وقد شبت تلك الحرب لا تملك أي خطة استراتيجية لإطفائها غير الانسحاب؟
- هل حقا يأتي التفكير في الانسحاب كاستجابة لضغوط القوى الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع الأمريكي نفسه؟
- هل تخلت أمريكا عن هدف بناء مجتمع ديموقراطي في العراق، وهو الهدف التبريري المعلن الذي شنت تحت شعاره الحرب؟
- أو أن أمريكا قد حققت فعلاً هدفها من الحرب وقد نجحت في خلق عراق مفكك يقف اليوم على حافة حرب أهلية تكفيها مؤونة الاستمرار في حرب كلفتها حتى الآن ما يعادل مائة بليون جنيه استرليني و2020 جندي؟
- هل يمكن أن يقرأ الانسحاب قراءة تختلف عن قراءتنا للحرب فلا نجد أنفسنا في حالة الانسحاب أكثر إذعاناً للشروط والبدائل الأمريكية منا في حالة الحرب.
تذكير:
- يقول رمسفيلد بالحرف الواحد ليلة البارحة بعد الإعلان عن الشروع داخل الإدارة الأمريكية في مناقشة فكرة الانسحاب (لقد جئنا لمساعدة الشعب العراقي على محاربة الإرهاب كما يمثله الزرقاوي وذلك حتى لا تضطر أمريكا لمواجهة الإرهاب على أرضها وقد فعلنا ذلك من خلال استراتيجية واضحة).
فكيف تساعد أمريكا العراق في التخلص من الإرهاب، ولم تسجل في العراق أي حالة سابقة لما تسميه أمريكا بإرهاب القاعدة قبل ولوغ أمريكا في الأرض العراقية.
وهل لهذا التصريح من معنى في الوقت الذي يجري فيه الحديث عن الانسحاب غير إعلان نجاح الحرب الأمريكية في إنجاز هدف خلق فوضى أمنية ومزيد من الانقسامات السياسية في المنطقة.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved