يعد إيضاح المفاهيم من المتطلبات الرئيسة في العلوم الاجتماعية، فالمصطلح قد يعني شيئاً خاصاً للباحث، وحتى يكون القارئ على دراية بذلك المعنى الذي قصده الباحث، كان مبحث (تحديد المفاهيم) من المباحث الأساسية في أي دراسة أو بحث اجتماعي. فلو كان عنوان البحث (العنف الأسري) فيجب على الباحث أن يحدد ما يعنيه بكلمة (العنف)، وماذا يقصد بها، وهل تشمل الألفاظ، والكلمات النابية؟ وهل الضرب الخفيف للتأديب من العنف؟ إلى غير ذلك من أبعاد الكلمة، وكذلك يحدد ما يقصده ب (الأسرة)، وهل تشمل الذين يعيشون في وحدات منفصلة، وهل هي الأسرة الممتدة، أم النووية؟ أم كلاهما؟. إن الالتباس في المفاهيم قد يؤدي إلى كوارث وأزمات. ومن ذلك ما يروى من أن خالد بن الوليد رضي الله عنه، بعد أن قضى على مسيلمة الكذاب وضع الأسرى في أحد المنازل، وكان يوكل الحراسة لقبيلة من القبائل كل يوم، وفي يوم من الأيام كانت الحراسة من قبل قبيلة يمنية، فمر خالد على الحراس، وكانت ليلة باردة جداً، فقال لهم: أدفئوا أسراكم. وكانت كلمة (أدفئوا) في مفهوم تلك القبيلة تعني: (اقتلوا)، وبعد أن انصرف من عندهم، بدؤوا في إخراجهم واحداً بعد الآخر وقتلهم. لقد (أدفؤوهم) تدفئة لن يعرفوا بعدها برداً، ولا حراً. وفي صباح اليوم التالي، مر خالد يتفقد أحوال الأسرى، ويا هول ما رأى..!! وعندما سألهم عن السبب، قالوا إنهم كانوا ينفذون الأوامر. وكان من ضمن القتلى مالك بن نويرة الذي تزوج خالد زوجته ليعوضها عن مصابها. واختلاف المفاهيم يسبب أحياناً مواقف محرجة، وقد تضيع بسببه بعض الحقوق، فنحن في المملكة عندما نرى شخصاً يعمل، ويتقن عمله نقول له: (الله يعطيك العافية)، وقد قالها أحدهم لفني مغربي يعمل في هندسة الديكور وفي أعمال الجبس، فما كان من ذلك المغربي إلا أن صرخ في وجه صاحبنا، قائلاً له: الله يعطيك أنت العافية..!! فقال السعودي: آمين. فازداد حنق المغربي وغيظه، وقال لصاحبنا: أنت تهزأ بي..!! وفي هذه الأثناء مر شخص ثالث بعد أن سمع الصوت، وسأل عن سبب المشكلة، فقال صاحبنا السعودي: قلت لأخينا: الله يعطيك العافية، فغضب، وصرخ في وجهي. وكان هذا الشخص يعرف معنى الكلمة عند المغاربة. فقال للفني: العافية عندنا في السعودية تعني (الصحة)، وقال للسعودي: العافية عند المغاربة تعني (النار)، ومن يومها تفهّم المغربي الدعوة، ولم يعد يغضب إذا سمعها، أما صاحبنا السعودي فإنه إذا مر بصاحبه المغربي فإنه يقول له من قبيل المداعبة: الله يعطيك العافية السعودية، ويكفيك العافية المغربية..!! ومن أزمة المفاهيم ما حدث للأمير عبد الله بن مساعد بن عبد العزيز، وقد ذكر ذلك في كتابه (ألف ميل في خطوة واحدة)، إذ كان في مرحلة إنشاء الشركة السعودية لتدوير الورق والنفايات، فأرسلت الأوراق إلى وزارة التجارة لاعتماد الاسم، وفتح السجل التجاري، وكان المسمى المقترح آنذاك: (الشركة السعودية للتدوير)، وعندما وصلت الأوراق إلى الموظف المختص، كتب عليها: تعاد المعاملة لأصحابها لاختيار اسم مناسب، وعندما عادت الأوراق اجتمع أعضاء مجلس الإدارة، وقرروا أن يكون اسم الشركة: (الشركة السعودية لإعادة التدوير)، وعندما وصلت الأوراق إلى الموظف أعادها مرة أخرى بالحجة نفسها وهي عدم مناسبة الاسم، عندها قام الأمير بزيارة الموظف ليسأله عن سبب تعطيل المعاملة، وما هو اعتراضه على الاسم. فرد الموظف قائلاً: أريد أن أفهم ما هو الشيء الذي ضاع عليكم وتريدون أن تدوروا عليه أو تعيدوا التدوير عليه؟! لقد كان مفهوم إعادة التدوير بمعنى إعادة تصنيع الأشياء المستعملة غائباً عن ذلك الموظف، ويفهم التدوير بمعنى البحث عن شيء ضائع، وعندها شرح له الأمير الموضوع، وتساءل عن فهم الرجل العادي لهذا المفهوم الذي استعصى فهمه على موظف مختص في وزارة متخصصة، فقرر هو ومجلس الإدارة تسمية الشركة باسم: (الشركة السعودية لإعادة تدوير الورق والنفايات)، وفي الاسم إيحاء أكثر وضوحاً بمعنى كلمة (تدوير). إن قضية المفاهيم واختلافها من شخص لآخر هي السبب في كثير من الاختلافات، فالحداثة مثلاً تعني أشياء كثيرة لأناس كثيرين، ولو عرف كل طرف معناها بدقة عند الطرف الآخر لربما تم حل معظم جوانب الاختلاف، وربما يجد الطرفان أنهما متفقان تماماً. ومن أجل ذلك يعد موضوع تحديد المفاهيم من الموضوعات المهمة في بناء أي بحث أو دراسة. * رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
فاكس 012283689
|