حملت التقارير الصادرة عن وزارة الدفاع الأمريكية أرقاما مهولة لضحايا العنف في العراق - وليس حرب تحرير العراق - وقد وصلت هذه الأرقام إلى ما يقرب من ثلاثين ألف عراقي. وأكثر من ألفي جندي أمريكي خلال عامي 2004 - 2005م والرقم مرشح للازدياد إذا استمرت الأحوال على ما هي عليه. هذا ما أعلن عنه رسمياً، ولعل المتكتم عليه ولأسباب خاصة يفوق هذا العدد، خاصة ما يتعلق بعمليات القصف العشوائي وقصف الأحياء دون تمييز بين شيوخها وأطفالها ونسائها، وبين من يظن أنهم يقاومون المحتل لبلادهم ويوصفون بالإرهابيين من قبل الغازين والمؤتمرين بأمرهم. هذه صورة الوضع في العراق، وليس الوضع في أفغانستان بأحسن حالا. أما الوضع في فلسطين فلا يماثله أي وضع في عالم اليوم. إنه مأساة إنسانية وظلم واضح ونصر للمعتدي والمحتل على أصحاب الحق والأرض. قتل في الخفاء والعلن واستخدام لكل ما هو محرم من أنواع الأسلحة ووسائل التعذيب، حرق للأخضر واليابس، تصفية لكل من يحاول الجهر بكلمة الحق. وإفريقيا الأخرى تعاني في كثير من مناطقها مثل هذه الصور، ولكن بطرق وأساليب مختلفة يكاد لا يظهر فيها المجرم الحقيقي. من سيفتح ملفات القتل والتعذيب والذل والإذلال في هذه الدولة؟ من سيحاكم الجلادين من المستعمرين والمتواطئين معهم. ربما يستيقظ الرأي العام الأمريكي أو البريطاني أو الفرنسي أو الإيطالي أو غيره من الدول الكبيرة التي مارست أدوار الشر هنا وهناك، وطبعاً سيكون ذلك متأخراً وبعد خراب مالطة كما يقولون. نقول: ربما يحدث ولو بطريقة ذر الرماد في العيون وتلميع الصورة التي بدأت تدخل في حال من طمس المعالم الراسخة في مجتمعاتهم، والهدف هو إسكات بعض الأصوات التي بدأت تندد بالأدوار التي تقوم بها حكوماتهم. الهدف طمس معالم الماضي واعتبار ما حدث أخطاء تقع بسبب اجتهادات بعض المسؤولين وتقارير بعض الهيئات الاستخبارية، وهو أمر يحدث في العالم أجمع وتعهد هذه الحكومات كشعوبها بالتحرز من تكرارها. أما شعوب هذه البلدان فعليها الانصياع والتأقلم مع ما يرسم لها من خطط ويملى عليها من شروط ويراد لها من واقع، وإن كان يتعارض مع قيمها ومصالحها، المهم أنه يخدم أهداف الصهيونية العالمية المسيطرة اليوم على القرار الدولي والإعلام العالمي والاقتصاد والتجارة والمسير لسياسات الدول الكبرى ولو على حساب مصالح بلدانهم وشعوبهم. الصورة التي يحاول الإعلام الصهيوني في الغرب والشرق إظهارها للمواطنين تقلل من أهمية الخسائر البشرية والمادية لهذه الحروب والانتهاكات، طالما ستجني هذه الدول الكثير من المواد والموارد المادية المستقبلية، وستظهر للعالم مدى قوة وتفوق وهيمنة بلدانهم في المجالات المختلفة. وقد يرد سؤال حول: من سيحاسب أصحاب القرارات الخاطئة والتي ورطت بلدانهم وأفقدتها الكثير من المصداقية، علاوة على الخسائر البشرية والمادية؟. وهنا تبرز القلوب الرحيمة في هذه البلدان الديمقراطية وتكتفي بما أورده هؤلاء من اعتراف بالخطأ واعتذار أمام الملأ وندم على ما مارس من أفعال كان بوده أن لا تقع. وأمام هذه الحجج المقنعة وصيحات الضمير المستيقظة ودموع الندم المستفيضة، فلا أقل من منحه أنواط الشجاعة والإخلاص ونياشين البطولة والقومية، وشهادة التفاني والإخلاص في خدمة الصهيونية وأهدافها، عذراً.. الوطنية المظلومة ومصالحها. الحماس الأوروبي ومن بعده الأمريكي لكشف المتورطين في جريمة قتل رئيس وزراء لبنان الأسبق (الحريري) رحمه الله. أمر مفرح وطيب وكنا نتمناه من داخل المجتمع العربي، ولكن طالما جاءنا من عندهم فمرحبا به فنحن نتمنى أن يكشف النقاب عن أي جريمة تقع في هذا العالم، فكيف إذا كانت على أرضنا وتمس أحد قيادات بلادنا؟. ولكننا كعادتنا من مواقف الغرب نبدي الارتياب أمام المقصد من هذه العملية، هل هدفه إحقاق الحق ومعاقبة الظالم والمجرم؟ لو كان الأمر كذلك لهللنا وكبرنا، ولكننا - مع الأسف - ومن واقع تجاربنا، لا نظن ذلك. إن هذا الحرص الغريب على كشف خبايا هذه الجريمة الشنعاء وما تخللها من أمور معقدة تذكرنا بأفلام الرعب والجريمة الهوليودية، وبذل الجهود الكبيرة لاستجلاء خباياها دون غيرها من مئات الجرائم المماثلة، والتي قد تكون أوضح صورة وأقل تعقيداً، أمر يحتاج إلى بصر وبصيرة. إن وراء الأكمة ما وراءها، وكشف المجرم الحقيقي لهذا العمل الإجرامي قد لا يتحقق، بل قد تحدث أمور ومستجدات توقف القضية وتجعلها في طمس النسيان كغيرها من آلاف القضايا، ولكن بعد أن يتحقق المطلوب من وراء المتاجرة بها والتهديد بما يعقب نتائجها. هناك قضايا واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ولا تحتاج لهذا الكم من التقارير والأوراق، والحل والترحال، والاستدعاء والاستجواب، وحدثت في منطقتنا العربية نفسها، وطالت رؤساء ومسؤولين، ولكن المجتمع الأوروبي والأمريكي لم يكلف نفسه حتى ولو بكلمة استنكار، وكيف يفعل ذلك وسيف الصهيونية مسلط على رقبته. من يحاسب من؟ سؤال يدور كثيراً ولكن بدون إجابة واضحة، ومرد ذلك أن العالم يحكم بموازين غير متوازنة، وتفسر الأمور وتحدد المواقف حسب مصالح الدول النافذة والمسيطرة والقوية، فقد تجد بين يوم وليلة أن المجاهد أصبح إرهابياً، والمطالب بأرضه وحقوقه أصبح خارجاً على القانون الدولي وغير متقيد بقرارات الشرعية. نحن لسنا ضد أمريكا أو بريطانيا أو روسيا أو فرنسا أو غيرهم من دول الغرب أو الشرق، وليس من مصلحتنا مناصبة أحد العداء، فكيف إذا كان هذا الأحد له وزنه وثقله في مختلف الجوانب الحياتية. نحن لا نطالب بقطع العلاقة مع هذه الدول أو الإضرار بها وبأفرادها بل يجب أن يكون باب الحوار معهم مفتوحا، وتبادل المصالح المشتركة معهم قائمة ومستمرة، وتبادل المعلومات العلمية والتقنية متواصلا. لقد وصلوا إلى مراحل من التفوق العلمي درجة لا يمكن لنا أن ننكرها أو نكابر حول حاجتنا إليها، وكذلك في كثير من التنظيمات الإدارية والمالية والاجتماعية. نحن عندما ننتقد أمريكا أو غيرها من دول الشرق والغرب ننتقدها على مواقف محددة وأخطاء قاتلة تمارسها يوميا ضد مجتمعاتنا وبلادنا. أمريكا دولة عظمى وقادرة على التأثير في المجتمع الدولي وقضاياه، ومن هنا نحملها وزر الكثير مما يقع فيه من الظلم والتجني والغبن واختلاف المعايير في النظر إلى القضايا والشعوب. أمريكا مطالبة بمحاسبة نفسها قبل أن يحاسبها الغير، ومراجعة سياستها، والتخلص مما وضعه الصهاينة في رقاب الكثير من الموجهين لسياساتها والمشرعين لقوانينها وأنظمتها. لن يثق العالم في الأمم المتحدة وهي أكبر منظمة عالمية تقع عليها مسؤولية في تحقيق الوفاق العالمي. لن يثق أحد في مجلس الأمن على رغم أن دوره الرئيسي التعرف على المشكلات التي تقع بين الدول والشعوب والتدخل لحلها. لماذا فقد المجتمع الدولي ثقته في أكبر منظماته؟ كل ذلك حدث بسبب تبنيهما مواقف غير متكافئة تخدم دولا دون أخرى، ويسيطر فيها الأقوياء دون الضعفاء. من يحاسب هذه المنظمة والمنظمات المنبثقة عنها ومجلس الأمن التابع لها؟ من يحاسب من؟؟ طالما هناك دول تعيش الفقر والتخلف والمرض والقتل والدمار.. وهناك من ينهب خيراتها ويسخر أفرادها ليزداد غنى ورفاهية. من يحاسب من؟؟ سؤال طويل عريض لن نجد له إجابة وافية شافية في ظل الأوضاع الدولية القائمة. كنت قد توقفت عن الاستمرار في الكتابة حول هذه القضية وقررت نسيانه كغيره مما يكتب المرء وهو في حالة غليان ثم يستسلم للواقع وينسى الموضوع؛ إما إيماناً منه بعدم جدواه أو قناعة بأنه لم يأت بجديد. وعندما قرأت مقال الأخ عبدالمحسن المطلق (شكراً أمريكا) وجدت أنه قد وضع اليد على الجرح دون لغط أو مغالطة، وآثرت أن أدفع بهذه السطور لعل فيها ما يفيد. وأكرر القول: إننا مع الجميع.. جميع الشعوب والحكومات، ومع محاسبة كل مجرم عندنا وعندهم، ومطلبنا الوحيد العدل في معاملة وإحقاق الحق وإزالة الظلم ومعاقبة المخطئ بما يستحق دون نظر إلى هويته وعِرقه.. والله الهادي إلى سواء السبيل.
|