Thursday 5th January,200612152العددالخميس 5 ,ذو الحجة 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

عتب الأحبة.. قاتلي! عتب الأحبة.. قاتلي!
الجوهرة آل جهجاه (*)

للعقل سطوته على الإنسان، ولا سيما إن كان صاحب مسؤولية في المجتمع القريب والبعيد، وهذه السطوة قد تنجح في تحقيق نوع من الاستقرار والاتزان المطمئن في شخصية صاحبها بعيداً عن سيطرة العاطفة عليه، أو بالأصح حاجات تلك العاطفة التي قد تتملّكه أحياناً، فيتحول إلى شيء شفاف ولزج غير قادر على الاستمرار في هيئته الأولى، وأظن أن العقل إذا سيطر على الشخصية أكسبها قناعاً خشبياً غير مرغوب ولا محبوب، وإن كان فيه بعض الطرافة أحياناً؛ لظهور التنافر بين الحيوية التي تمزج العقل بالعاطفة وبين الجمود الذي يلغي العاطفة الحيّة أمام سلطان العقل، لكنه يبقى أكثر اتزاناً وقدرة على مواصلة العيش بسلام كبير ونجاح ظاهر على الأقل.
هذا ما أظنه في حال الراشدين كثيراً؛ أي مَن تجاوزوا مرحلة العشرينات أو استطاعوا تحقيق كيان عاطفي - عقلي متوازن في انطلاقه من داخل الشخص، وانتشاره بحسب المحيطين به، دون اعتماد كلي عليهم، وليس ينصب اهتمامي على هذه الفئة، وإنما على الفئة التي لم تتجاوز عتبات منتصف الرشد والاستقلالية مع تنويهي بصعوبة تحديدها بزمن معيّن على وجه القطع، لكن وجهاً واحداً من معاناتها هو المحدد والظاهر والذي يريد أن يتكلم هنا، ويُبِين لو أجداه البيان!
تراهُ مسكيناً ترحمه من إحساسه بأنه المسكين التائه بدون الشخص الذي يقوم على تربيته والعناية به: أبًا كان أو أمًّا أو أستاذاً ومعلمة أو مربية أو جَدًّاً وجدّة...إلخ من الاحتمالات؛ فالمهم أن يكون شخصاً يعوّض فيه الصورة التي يحلم أن تكون لشخصيته أو هو مكتفٍ بأن يكون في ظلها الآمن زمن استعداده لمواجهة الحياة منفرداً بعدما يتخرّج في كلية إعداد الذات الوحيدة بلا أحبتها أو - على الأقل - البعيدة عنهم وغير الملتصقة بهم التصاقاً تتعيّش به على ابتسامة من هذا، وتألق نظرة من ذاك، وحنان تهطل أمطاره باستمرار، وقلب يرعى في آفاقه وحيداً متأكداً من أنه الوحيد في هذا الكون إن فقد مَن يحبه ويرعاه، أو ابتعد عنه.
مشكلة الألفة أنها ليست خربشات بالقلم الرصاص يمكن أن نمحوها متى شئنا أو متى شاء أحبتنا، وبخاصة إذا كانوا عاتبين علينا أو غضابا، ويحبون أن يعاتبونا بصمت، ويعاقبونا بتجاهل وجودنا، بل بتجاهل تعيُّشنا على خفقهم نحونا.. مشكلة الألفة في مجتمعنا أن أحبتنا الكبار في قلوبنا وأعيننا.. إذا غضبوا لخطأ صغير أو كبير أو لاختلاف وجهات النظر.. عاقبونا بصمت؛ فهم لا يحبون غَزْل ضفائر الحوار التي تنكشها الاختلافات والخلافات الصغيرة، فتشوّش صفاء مرايانا العاطفية، وبالتالي تُشلّ محاولات قشات أرجلنا للحبو؛ تمهيداً للسير في طريق منفرد!
تخيلوا: وحيداً مسكيناً صغيراً تعوّد على مَن يلتصق به أو يلتصق بظله، ويتركه فجأة بصمت! ومشكلة أحبتنا أنهم يخافون علينا ويحبوننا بصمت؛ أنهم يحيطون بنا من كل جانب؛ لأنهم يسكنون في خواطرنا وهواجسنا، وقد عاشوا طفولتنا وبساطتنا وخوفنا وصدقنا وجوعنا وبردنا وانكساراتنا وأوّل حرف نطقناه محلًّى بأعجب اللثغات.. لكنهم - أحياناً - يتجاهلون أن في قلوبنا عقولاً تريد أن تكبر وتستقل، تريد أن يطلعوا - هم وحدهم - على خزائنها من الكلمات والآراء والمواقف بصفاء وحرية، تريد أن تنشر أجنحتها على حبال الأحبة الممدودة فوق أشجار اللوز والسدر والأثل الجميل، وتريد أن تصنع أرجوحة مدلّلة لا تترك ابتسامة أو دمعة تنمو لتتدحرج خارج أسوار العين دون أن تنثر ظلالها يمنة ويسرة، أماماً وخلفاً، فوقاً وتحتاً، وفي الجهات التي لم يكتشفوها بعد أو يُسموها؛ طرباً في ظلال الأحبة!
أحد الأحبة قد يغضب، فيصمت ويُشيح، ويظل المسكين يعدّ الزمن ومتى العودة... يحبه، ولا يريد أن يخدعه باعتذار مزيّف؛ فهذا شعوره، وهذا رأيه، وهذا ما حواه قلبه وعقله ساعة الموقف... فينتظر: ثانية، ثانيتين، خمساً، عشرين، ستين، دقيقة، دقيقة وثانية، دقيقة وثانيتين، ساعة، يوماً، شهراً، سبعة أشهر... عذاب صعب؛ لأنه بصمت! عذاب أحال الفتى المسكين إلى جنين خديج خرج للحياة بلا جمهور يعرفه؛ ليضمه، ويسمي عليه، ويدفئه، فبقي ينتظر قدومهم ليطلق صرخته الأولى؛ فرحاً بمغادرة الصمت والوحدة.. تحت كل شيء هو الآن.. يبكي تحت أدراج المكتب، تحت السرير، تحت الكنب، ولربما لو رفعتَ طرف حصير أو سجادة ما لوجدته ضئيلاً جداً يبكي تحتها، تسمع تنهّداته ولا تراه، وتنزلق في قوالب دموعه ولا تراه؛ لأنه يعتب على أحبته الغاضبين منه بصمت، والمتجاهلين له بصمت، والمحبين له بصمت؛ والصمت لغة عجيبة، مؤخراً.. أفتى بها علماء النفس وتربويُّوها - هداهم الله - كحلٍّ ناجع جداً في تأديب الأبناء والأنفس الصغيرة التي تحاول أن تكبر من مشارق العقل ومغارب العاطفة؛ لتقترب من أولئك الكبار الصامتين الذين اشتقنا إلى أن يعودوا إلى الأسلوب القديم.. نحبهم وهم يضربوننا، تهجم أيديهم على الجينات الشقية والخلايا المشاكسة في أجسادنا، فتتأدّب جيداً وبسرعة؛ لأن دفئهم يُفرحنا، وحرارة خوفهم علينا تُنضج جيناتنا وخلايانا وتُعقّمها، لكن الصمت يُحلّل أجسادنا المرئية بكاملها، ويُفتت قلوبنا، ويُشخبط على لوحة عقولنا التي لم يذهب كثير من بياضها بعد، ويُشعرنا أننا بلا أسماء ما داموا يتجاهلوننا، ولا يُطربوننا بنداء أسمائنا، ولا يُنعشوننا باحتواء نور عيونهم لأجسادنا، ولا يكفوننا مؤنة شرار الناس الذين قد نبوح لهم بوجع القلب المهجور، فيركضون بتفريق آلامنا على أذن كل بشر وحجر، فاضحين أسرار خلايانا الصغيرة، ومجاهرين بتجاهلنا؛ لأننا نبحث عن حلٍّ لصمت كبارنا، ولا نبحث عن معارض مجانية لحيرتنا وأوجاعنا..
لو كانوا يحبون الحديث وقت الغضب والعتب! ليتهم كانوا كذلك! ليتهم لم يتعلّموا ولم يتثقفوا بالصمت! ليتهم لم يقتنعوا بأننا لن نكبر، وسنظل صغاراً يحتاجون إلى الغضب علينا بصمت، ويحتاجون إلى تجاهلنا عندما تفور عواطفنا، فتتفجّر عيوناً من صدق وشفافية ربما لا يحبونها إذا خالفت عيون قناعاتهم وأحاسيسهم الكبيرة! ليتهم لم يقتنعوا أن سبعة أشهر من الصمت غير كافية لمصادرة إحساس لا يرغبون حياته في عقول صغارهم ولو لثوان متكسرة، ولا يرغبون أن يُشاركوهم في شطحات أفكارهم ومشاريعهم النفسية قبل الحركية! ليتهم يدرون أن عتب الأحبة قاتلي ومُبعثري!

(*)معيدة في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved