إنّ من أكبر ما يمكننا أن نسلّي بمثله أنفسنا في مثل هذه المصائب الجمة التي تمرّ بنا بين آونة وأخرى، كفقدنا لعزيز غال، هو: إيماننا المطلق بأنّ الموت حقّ وأنه سنة من سنن الله في خلقه، وقضاؤه الذي لا رادّ له، وأنه لو كان أحدٌ من الخلق ينجو منه، لكان ذلك لأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولكنه قدرٌ محتومٌ وأمرٌ لا مفرّ منه لكل ذي نفس مخلوقة. وقديما قيل: (أربعة كذّب بثلاثة منها وصدّق بواحدة: إذا بلغك أنّ حيّا ماتَ فصدّق، وإذا بلغك أن فقيرا صار غنيّا فصدّق، وإذا بلغك أنّ غنيا صار فقيرا فصدّق، وإذا بلغك أنّ أحمقَ استفاد عقلاً، فلا تُصدّق).
ومع يقيني بكلّ ذلك عن الموت وحتميته، وأنه لا مناص من وقوعه على مخلوق، إلاّ أن نبأ فقدنا للمربي الكبير الشيخ عثمان الصالح، كان له وقع الصاعقة على النفس، مع أنّ الوضع الصحي للفقيد الكبير في الآونة الأخيرة، من شأنه أن يخفف عن محبيه وقع المفاجأة بالمصاب الجلل فيه، لكونه - رحمه الله - كان في وضع صحي حرج، لا أحد معه إلاّ ويسأل الله له حسن الختام.
والآن فقد وقع ما كنا نخشاه بقدنا لذلك العَلَم الشامخ والقمّة السّامقة، وهو في الحقيقة فقد مجازي غير حقيقي، فالشيخ عثمان الصالح باقٍ بيننا بسيرته العطرة، وبعطائه الفكري والعلمي الذي كان يجود به على الجميع على امتداد حياته الطويلة العامرة ببناء الروح وتهذيب النفس وتقويم مُعوجّ السلوك.
كما أنه باقٍ بيننا بمن خلّفهم من أبناء كرام بررة، لا ينحصرون فقط في أولئك الكرام الذين خرجوا من صلبه، بل هم أولئك الأخيار الذين لا يحصيهم العدّ الذين قلّ اليوم أن يخلو منهم مرفق من المرافق الخاصة والعامة، وهم تلامذته الذين أرضعهم لبان العلم والمعرفة، وطبعهم بطباعه وأنهلهم من علمه ومعرفته وتجاربه وتخلّقوا بأخلاقه، فقلما تجد من بينهم من لم يظهر أثر الشيخ فيه، سواء في لسانه من حيث الفصاحة والبيان، أو الأخلاق العالية التي هي سمة من أبرز سمات الفقيد الغالي.
لقد أتاحت لي الظروف أن أطلع على الكثير من جوانب الخير والإنسانية في حياة فقيدنا الغالي الشيخ عثمان الصالح وذلك قبل نحو من عشرين عاما أو تزيد قليلاً حين كنتُ أسكن عمارة بشمال المربع بالرياض، لم نلبث أن جاورنا فيها أحد أصهار الشيخ وهو الأخ المهندس عثمان أبا حسين، إذ كان حديث العهد بالاقتران بإحدى بنات أستاذنا الشيخ الذي تكررت اجتماعاتي به عند صهره الجديد ورأيتُ من شيمه وأبوته ومكارم أخلاقه الشيء الكثير، فتلا ذلك زيارتي له في منزله العامر التي لم تنقطع التي كنتُ أخرج منها على الدوام برصيد من توجيهاته، سواء المباشرة أو غير المباشرة المستفادة من سمته وأسلوب مخاطبته للناس وترحيبه بهم، فمن ذلك أنه كان، رحمه الله، من الذين يُحسنون الإنصات للذين يتحدّثون معه، وكانت لديه أساليب للتشجيع قلّ وجود نظيرها عند غيره.. ومنها على سبيل المثال: أنه إذا قدّمك لضيف من ضيوفه أضفى عليك من الأوصاف والصفات ما يُخجل تواضعك ويزيد بكثير عن ما تعرفه عن نفسك.. ولكنه أسلوب من أساليب ذلك المربّي الذي له أكثر من أسلوب تربويّ يستعمله مع أبنائه وطلابه.
وأذكرُ أنه، رحمه الله، كان يسألني عن أمر من الأمور فأفيض في الإجابة عليه بما أعلمه عن ذلك الأمر، وأجده يُصغي إليّ باهتمام بالغ وكأنّ ما أقوله له، إنما يسمعه لأول مرّة.. وعندما توثقت صلتي وعلاقتي بالشيح نوعاً مّا، علمتُ أنه لم يكن يسألني عن شيء إلاّ ويعرف جوابه من قبل أن أقدم على الدنيا.. ولكنه تواضع وأسلوب ذلك المربي في تربية النفوس التي يمارسها بأكثر من أسلوب وأكثر من طريقة.
كان الشيخ عثمان الصالح من أكثر من عرفتُ إسهاما في التواصل الإيجابي مع مجتمعه أفرادا وجماعات، فقد كان حاضرا على الدوام في المنتديات الفكرية والأدبية والعلمية، مشاركا للناس في أفراحهم ومباركا لها، كما كان على الدوام مواسياً لهم في أحزانهم، وكان حريصا كل الحرص على الوطن الغالي وسمعته، ذاكرا على الدوام قادتنا وزعماءنا في المملكة العربية السعودية، بما يجب أن يُذكروا به من الثناء الحسن والإشادة بمآثرهم الجليلة، داعيا لهم بما يتطلبه المقام، إما بطول العمر للأحياء منهم، أو بالمغفرة والرضوان لمن اختارهم الله منهم إلى جواره.
وأما تفاعله ومتابعته لما يُنشر في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، فحدث عن ذلك ولا حرج، وتفاعله مع ذلك هو تفاعل إيجابي، فهو حاضر على الدوام لتصحيح أية معلومة قد تكون خاطئة ومنشورة، مثلما أنه حاضرٌ كذلك على الدوم لتشجيع من يرى من أبنائه الصحفيين والكتاب أنه يستحق التشجيع والمساندة.
الحديث عن فقيدنا الغالي الشيخ عثمان الصالح، حديث ذو شجون، ولا يأتي عليه إلا كتابٌ مستقل بين دفّتين، ولكني قبل أن أختم هذه الأسطر، فإنه لا يسعني إلا التطرق لما ختم الشيخ عثمان به حياته وهو: ملؤه للفراغ الفكري والثقافي الذي تركه في ساحتنا رحيل الأديب الكبير الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، رحمه الله، الذي تُوجد أوجه شبه كبيرة بين سيرته ومسيرته، وسيرة ومسيرة فقيدنا الشيخ عثمان الصالح، وبخاصة فيما يتصل بالجانبين: الخُلقي والفكري.
فقد أنشأ الشيخ عثمان في دارته العامرة بالرياض منتدى ينعقد بعد كل خمسة عشر يوما لاستضافة نجم من نجوم المجتمع، فيكون مشهودا محفوفا بالفضل والعلم والمعرفة ومكارم الأخلاق التي هي من أبرز صفات فقيدنا الغالي الشيخ عثمان الصالح، رحمه الله وأسكنه جنته.
بقي أن أذكر بعض ما ننتظره من أبناء شيخنا الجليل جميعا سواء أكانوا أبناءه من صلبه، أو أبناءه الآخرين الذين ربّاهم وعلمهم وساهم في جعلهم مفخرة من مفاخر الأمة والوطن.. وهو: أن تتضافر جهودهم جميعا لأن يظل الشيخ عثمان الصالح موجودا بيننا على الدوام بعلمه وفكره وأخلاقه الحميدة، بأن تظل دارته أو جزء منها ومكتبته مقصداً لطلبة العلم ورواد المعرفة، تخرج من تلك الدار المؤلفات والمطبوعات، والمحاضرات والندوات التي تكون امتدادا لسيرة ومسيرة الفقيد الغالي الكبير الذي:
لم يكن هلكُه هلك واحدٍ ولكنه كان بنيان قومٍ تهدّما |
|