حكمة الله في خلقه أن يعيش كل مخلوق فترة من الزمن ثم ينتقل إلى الآخرة، نتقبلها كمؤمنين بصدر رحب مهما كان الراحل غالياً. هكذا المؤمنون إذا أعطوا شكروا ولهم أجر، وإذا ابتلوا صبروا ولهم أجر. والحمد لله على ما قضى. وهكذا نتقبل قضاء الله وقدره في فقيدنا الغالي الشيخ المربي الجليل عثمان بن ناصر الصالح الذي وافاه الأجل المحتوم يوم الجمعة الرابع والعشرين من شهر صفر 1427هـ رحمك الله أبا ناصر وثبتك على القول الثابت. وألهمك الشهادة عند الحساب. ووفاك ربك كتابك بيمينك يوم تلقاه.
عرفت الشيخ - رحمه الله - في مرحلة متأخرة من عمره، ولكنه كان لا يزال يعطي ويأخذ، يوجه بكل لطافة واحترام، يحترم الصغير والكبير. يحادث كل من في المجلس، لا يغفل عن هذا، ولا يزيغ بصره عن ذاك. إذا تكلم وددت استمراره. أعطاه الله لجام اللغة فراح ينطقها درراً، وأعطاه الله الحكمة فصار يحدثها نثراً وشعرا. إذا تحدث غيره أنصت بإمعان وحرص وكأنه تلميذ يتعلم. ثم يعلق بما يراه في أدب واحترام وسعة إطلاع. كان يعرف عن كل من يحضر مجلسه. ويذكر عن كل حاضر ما يعرف من العلم الطيب، والنسب أو الحسب، شديد الحرص على حضور المناسبات العامة والخاصة تقديراً منه للدعوة وللداعين، ورغبة في الاستفادة مما يعرض ويقال، على الرغم من تحمله العناء والمشقة في ذلك.. حضر مرة احتفالا للحرس الوطني وكان لي شرف القاء كلمة فيه عن المناسبة. ظل طيلة حياته - رحمه الله - يذكر الحاضرين معي في مجلسه بما ذكرت في تلك المناسبة. كانت الكلمة عادية، والإلقاء أقل من العادي. ومع ذلك كان - رحمه الله - يشيد بذلك يحسبه السامع مدحاً لي، وهو وإن كان كذلك إلا أن الحقيقة هي رغبة من المربي الجليل - رحمه الله - لي ولأمثالي الاستزادة من العلم وتحسين لغتي وإلقائي.
دخلت معه ذات مرة في نقاش عن ضرورة كتابة مذكراته وسيره حياته لكي تستفيد منها الأجيال القادمة. وفي تواضع جم قال: ليس لدي ما أقول وليس لدي ما أكتب عنه، وكان عجبي إذا كان صانع أجيال من الرجال الذي يديرون بنجاح دفة الإدارة العامة والخاصة في المملكة لا يملك ما يقول. وإذا كان الأديب الذي دانت له اللغة والأدب والفكر لا يملك شيئاً. وإذا كان الأب الفاضل، والشيخ المحترم لا يملك شيئا للأجيال القادمة فمن يا ترى يملك؟ لكنه التواضع الجم الذي خيم عليه طوال حياته والأدب الأخلاقي الذي ارتضاه لنفسه. والرغبة في الابتعاد عن الأضواء هو ما دعاه ليقول ذلك. وأرجو أن يكون قد ترك لنا بعض الذكريات والنصائح التي سنستفيد منها.
لقد ربى أجيالاً في زمن كانت فيه التربية صعبة المراس وفي معقل كانت إدارته من أصعب الأمور. تلمس فيمن درس لديه، وتعلم من مدرسته حسن الخلق، وكثافة وعمق المعرفة. لم يكن يعلِّم العلم فقط، بل كان يعلم العلم والأدب والأخلاق، ومتى تلازمت الثلاثة في إنسان كان النجاح حليفه.
لقد رحل المربي الجليل. رحل بجسده، ولكنه باق في أخلاق وسلوك من تربى على يديه، وحتى من كان له حظ التعرف عليه. سيبقى معنا ذكرى عطرة، وسيرة مجيدة. رحمك الله أبا ناصر وعزاؤنا فيك أن كل نفس ذائقة الموت. { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }.
|