Monday 10th April,200612247العددالأثنين 12 ,ربيع الاول 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

ومضات من أخلاق الفائزين بالجائزة ومضات من أخلاق الفائزين بالجائزة
عبدالله الصالح العثيمين

في مساء يوم الاثنين الماضي شهد الكثيرون احتفال منح جائزة الملك فيصل العالمية للفائزين بها هذا العام، واستمع مَنْ حضروا ذلك الاحتفال أو تابعوه عبر وسائل الإعلام، إلى شيء من إنجازات أولئك الفائزين، التي أهلتهم لنيل الجائزة، وإلى كلماتهم التي رأى كل واحد منهم البوح بها في تلك المناسبة السعيدة وفق ما رأى أنه مناسب للمقام. وكم كانت السعادة غامرة أن وصل التكريم إلى مَنْ يستحقه، وأن يشهد ذلك العرس الفكري العلمي مَنْ شاهده من أولئك الذين لبوا الدعوة لحضوره. والحديث عن إنجازات الفائزين بالجائزة يطول يطول. لكن لعلَّ من المناسب اقتباس ومضات من أخلاقهم أضاءتها عبارات كلماتهم التي ألقوها.
كان أول المتحدثين من الفائزين حبيب الكثيرين الشيخ صالح الحصين الذي مُنِحَ هو والشيخ الفاضل يوسف الحجي، جائزة خدمة الإسلام. وكل من سعد بمعرفة الشيخ صالح يتبيَّن له عمق تفكيره، وكونه يضرب مثلاً أعلى في تعامل المسلم؛ تواضعاً وكرم خلق. ومما ورد في كلمته، التي ارتجل مضمونها ارتجالاً، التي توضح ما وُصف به قوله:
(ربما لم تكن البشرية في حاجة لاعتناق مبادئ الرحمة الإسلامية: السلام على الأرض، والمساواة بين البشر، والعدل في الحكم، مثل حاجتها الآن. ذلك أنها تمرُّ بأخطر أزمة عرفها التاريخ.. أزمة تهدّد بالفناء الشامل.. أزمة خلقها اجتماع مزيج مشؤوم من قوة الدمار وإرادة الإنسان الطليقة من القيد الأخلاقي والقانوني). (وليس ما يجعل الخطر بالفناء محدقاً سياسة دولة معينة فقط؛ بل عموم المنهج الذي يحكم العلاقات الدولية في العصر الحاضر؛ وهو كما نشاهد في الواقع، ووفق ما تقررِّر الكتب المدرسية الجامعية، منهج أساسه المصلحة القومية والقوة. أما الأخلاق وقواعد القانون الدولي التي كثيراً ما تستدعي للتبرير، فلا اعتبار لها إذا لم تتفق مع ذلك الأساس).
وكان كاتب هذه السطور قد أشار إلى شيء مما ذكره الشيخ صالح هنا في رؤيته لموقف الدول القوية عالمياً من جرائم الحرب المرتكبة ضد المسلمين في البوسنا والهرسك قائلاً:


وجرائم الأعداء تبدو عندها
أفعال هولاكو أعفَّ وأرحما
ومفسَّر القانون وفق مزاجه
يرنو أصمَّ إلى الجرائم أبكما
ويمارس التسويف خطَّة بارع
حتى يراق دم البريء ويعدما
ما كان أسرعه ليردع ظالماً
لو لم يك المظلوم شعباً مسلما

ومما ورد في كلمة الشيخ صالح دالاً على عمق تفكيره قوله:
(منذ عهد مكيافيلي ظلت الفكرة التي تقوم عليها الحرب القذرة تُقبل على أنها سياسة ذكية. ومنذ عهد روبسبير ظل العالم (المتحضر) يعاني مرضاً مزمناً اسمه الإرهاب. وانتقل هذا المرض إلى العالم الإسلامي قبل خمسين سنة على أيدي عصابات قادمة من الغرب (يعني الصهاينة) صارت تسمى فيما بعد قوات التحرير والاستقلال. الإرهاب أشنع أنواع العنف والعدوانية. وأشنع أنواع الإرهاب إرهاب هدفه اتِّهام أبرياء بالإرهاب).
وبعد أن أوضح الشيخ صالح ما اقتبس من فكره الثاقب اختتم كلمته بعبارات تدل على صفة من صفاته النبيلة؛ وهي التواضع؛ إذ قال:
(من ذا الذي لا يشعر بالفخر والاعتزاز عندما تشهد له جائزة الملك فيصل العالمية بأنه خدم الإسلام؟ أما أنا فمعرفتي بضآلة ما قدَّمته للإسلام لا تسمح لشعوري الشخصي بأن يتطاول لهذه المنزلة من الفخر والتيه. لقد منحت هذه الجائزة لا لعملي، وإنما لانتسابي إلى مؤسسات تطوعية إنسانية خدمة الإسلام حقاً. وكان هدفها نشر الرحمة الإسلامية العالمية. ومع ذلك لا يفوتني أن أعبِّر عن شكري وامتناني للأفاضل الكرام الذين أهَّلوني للجائزة على ظنهم الحسن الجميل).
ومن الجدير بالذكر أن الشيخ صالحاً تبرَّع بنصيبه من الجائزة دون أن يعلن ذلك للملأ للعمل الخيري الإسلامي. جعل الله ما قام به في موازين أعماله.
أما الشيخ الفاضل يوسف الحجي فمما يدل على أخلاقه الكريمة ما ورد في كلمته عندما قال: (إنني أتقدم بخالص الشكر والتقدير للإخوة الذين رشحوني لهذا التكريم الرفيع. ولا يسعني إلا أن اقول ما كان يقوله الصحابة رضوان الله عليهم في مثل هذا المقام! اللهم اجعلني خيراً مما يظنُّون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون. وإن هذا التكريم، الذي حظيت به ليس تكريماً لشخصي، وإنما تكريم للهيئة الخيرية الإسلامية العالمية ولجميع العاملين في الحقل الخيري والإنساني في عالمنا العربي والإسلامي).
وأما الأستاذ الدكتور تمام حسان عمر الفائز هو والأستاذ الدكتور عبدالقادر الفهري الفاسي بجائزة الملك فيصل العالمية في مجال اللغة العربية فلم يتحدَّث عن إنجازاته العلمية والعملية، التي هي إنجازات رائدة امتدت إلى أكثر من نصف قرن، وأفاد منها الكثيرون من الباحثين. لكنه بدلاً من ذلك أبان فضل الله على عباده بأن أرسل إليهم رسولاً يعلِّمهم الكتاب والحكمة كما أبان فضل الله على العرب بأن جعل لغتهم وعاء لثقافة إسلامية مستندة في أصولها إلى القرآن اكريم والسنة النبوية الشريفة. ويأتي هذا الصوت الغيور في وقت تتوالى فيه السهام الموجهة إلى اللغة العربية من أعداء أمتنا الخارجين ومن المعجبين بثقافة أولئك الأعداء من داخل صفوفنا.
وأما الأستاذ الدكتور عبدالقادر الفهري فقد فصَّل ما قام به من إنجازات بحثية وإدارية. وفي حديثه المفصَّل الشيء الكثير العميق مما يفهمه المتخصون في ميدان الدراسات اللغوية الحديثة ويقدِّرونه.
وماذا عن الفائزين في مجال الطب والعلوم؟
كان الفائز في مجال الطب (وموضوع الجائزة التهاب بطانة الأوعية الدموية) البروفيسور الأمريكي مايكل جمبرون من جامعة هارفرد. ومما ورد في كلمته دالاً على تحليه بأخلاق نبيلة اعترافه بفضل من كان لهم فضل عليه علمياً. ومن ذلك قوله:
(لقد أسعدني حظي منذ وقت مبكر وأنا ما زلت طالباً في كلية الطب بجامعة هارفرد بمقابلة الدكتور رمزي سليمان قطران. وكان بدوره في ريعان شبابه. لقد ولد في حيفا بفلسطين، وتخرَّج من كلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت. ثم جاء إلى الولايات المتحدة لإجراء دراسات عليا في علم الأمراض في بوسطن. وقد أصبح أستاذي واستطعت من خلال توجيهاته لي أن أبدأ مسيرتي على الطريق الذي قادني إلى هنا هذه الليلة).
وبعد أن أوضح ما تُوصّل إليه من نتائج نافعة للبشرية في ميدان بحوثه قال: (لقد تعلَّمت دروساً مهمة أود أن تشاركوني فيها. أولها أن العلم يصنعه البشر باعتبارهم أدوات الاختراع، وبالتالي فإن التواصل بين البشر هو الوقود لذلك النشاط. وتعلمت أن العلاقة بين الطالب وأستاذه علاقة خاصة جداً تستدعي تفاعلاً متبادلاً ومفيداً بين الطرفين. وتعلمت كذلك أن القيمة الحقيقية لبحوث العلوم الحيوية الطبية تكمن في إمكانية؛ بل ضرورة ترجمتها إلى وسائل للتخفيف من آلام الإنسان. ولاشك أن الأجيال القادمة سوف تحكم على مدى نجاحنا حضارياً بمقدار ما نتمكن من تسخير المعرفة الجديدة في الطب لخدمة البشرية).
أما البروفيسور البريطاني سايمون دونالدسن الفائز مع البروفيسور الهندي مودومباي ناراسيمان بجائزة العلوم (وموضوعها الرياضيات) فمما ورد في كلمته قوله:
(يشرفني الوقوف جنباً إلى جنب مع الفائزين بالجائزة في حقل الرياضيات وقد أسعدني حظي بمعرفتهم معرفة شخصية جيدة. وقد أثلج صدري تقدير الزملاء بأعمالي من خلال اخيتارهم لي فائزاً بالجائزة. إلا أنني أعلم أن هناك عدداً كبيراً من علماء الرياضيات المبدعين حول العالم الذي كثيراً ما عملوا تحت ظروف صعبة. وعلى الرغم من ذلك فإن حبهم لعلهم يدفعهم لتحقيق إنجازات عظيمة دون أن يلقوا التشجيع بين أحد أو يكون لهم مثل حظي في الحصول على هذا التقدير العظيم الذي نلته منكم). (وإن جملة الأفكار والمعارف الرياضية محصلة الأفكار عدد لا يمكن حصره من العلماء؛ وبالتالي فإنها تقف تذكاراً عملاقاً لما حققته الإنسانية.. وإن أقسام الرياضيات الثلاثة: الهندسة والجبر والتحليل، تنطبق على المحتوى التقني لفروع الرياضيات المختلفة، وعلى أنماط الفكر المستخدمة فيها. ومن أغلى ما تعلَّمته أثناء دراستي للدكتوراه تحت إشراف السير مايكل عطية، الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية سنة 1987م، هو قيمة مزج تلك الفروع المختلفة للرياضيات لمعرفة تداخلالها وتفاعلاتها المتبادلة، كما تعلمت منه أهمية البحث في معاني الأشياء وروحها حتى أتمكن من اختيار الطريقة المثلى للتفكير في المسألة الرياضية، وأتوصَّل إلى حلِّها على نحوٍ منسق وبديع.
وفي مرحلة لاحقة من مسيرتي العلمية عملت عن كثب مع الدكتور سويفان الذي فاز أيضاً بجائزة الملك فيصل العالمية سنة 1994م، وتعلمت منه المزيد عن التحليل ومعنى الفضاءات وفك المعادلات الصعبة، وبالتالي فإن عملي كما أحب أن أراه ودراساتي المنحصرة في زاوية ضيقة من عالم الرياضيات الفسيح ما هو إلا نتاج التفاعل بين فروع الرياضيات الثلاثة الكبرى).
واختتم البروفيسور كلمته بقوله:
(إنه شرف خاص أن أشترك في هذه الجائزة مع البروفيسور ناراسيمان. إن الورقة العلمية الشهيرة التي نشرها مع سيشاري عام 1965م بنيت جسراً بين الهندسة وعلمي الجبر والتحليل، وكانت واحدة من أول البحوث التي درستها حينما كنت طالب دراسات عليا).
أما البروفيسور ناراسيمان فأعرب عن غبطته واعتزازه بانضمامه إلى كوكبة رائعة من علماء الرياضيات الذين نالوا الجائزة، وعن سعادته الخاصة بمشاركة البروفيسور دونالدسن له فيها. وتحدث من معهد تاتا، الذي أصبح من المراكز العالمية الرائدة في الرياضيات مما يؤكد أن في مقدور الدول النامية أن تنجز بحوثاً من أرقى مستوى إذا توفر لها التخطيط السليم والدعم المادي. وقال:
(إني أنظر إلى هذه الجائزة ليس على أنها تقدير لشخصي فحسب؛ بل لما أنجزه أبناء جيلي من علماء الرياضيات الهنود. وإني لمدين لكثير ممن كان لهم الفضل في تشكيل مسيرتي في عالم الرياضيات. ويسعدني أن أتقدم بالشكر والعرفان لأساتذتي راسين وسخران وشواردز، ولرفاق دربي سيشاري ورامان، اللذين دامت صداقتنا وزمالتنا العلمية أكثر من نصف قرن وما زلت أجني ثمار صداقتها، وأرجو أن أعبر عن شكري لديفاكران الذي قدَّمني إلى عالم الفيزياء الحديثة كما أشكر طلابي العديدين والمتعاونين معي من أرجاء العالم الذين أثروا حياتي العلمية).
هكذا يكون العلماء الرواد؛ عمقاً في التفكيرواعترافاً بالفضل لأهل الفضل.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved