تلقيت رسالة بريدية رقيقة، من الوالدة الروحية لأبناء وبنات شهداء الواجب، في منطقة القصيم، نورة بنت محمد بن سعود - أو كما يسميها أطفال الشهداء: ماما نورة - حيث ترأس اللجنة النسائية لرعاية أسر الشهداء، في ذلك الجزء الغالي من الوطن.. وضمن الرسالة تقرير (أنيق)، يتضمن معلومات تفصيلية عن جهود اللجنة منذ تأسيسها.
ما يُلفت النظر عدة أمور: بداية، حرص التقرير على إظهار حقيقة أن جهد اللجنة هو جُهدٌ (جماعي)، شاركت فيه العضوات، سواء في نشاطات اللجنة، أو عند إعداد التقرير.. فلم تجنح (ماما نورة) إلى (الترزّز) على حساب العضوات الأخريات، كما يفعل البعض، فقد أعطت مساحة للجهد والشكر والمستحق لزميلاتها في اللجنة - اعترافاً وذكراً.. هذه ناحية شكلية، إلا أنها تستحق الإشادة.. الأهم، أن هذه اللجنة المعنية برعاية عائلات شهداء الواجب، الذين اغتالتهم يد الغدر والخيانة غيلةً، في رابعة النهار، وهم على ثغر من ثغور الدين والوطن.. هذه اللجنة، هي (الوحيدة) على مستوى المملكة، التي أخذت على عاتقها لفت اهتمام الوطن والمجتمع، إلى أهمية العناية والرعاية والاهتمام بأسر شهداء الوطن، وهم يواجهون الإرهاب والإرهابيين، بأرواحهم وأنفسهم ودمائهم الزكية.. وهل هناك أغلى وأزكى من الروح والدمّ؟ ومع ذلك وضعوا أرواحهم على أكفهم، وبذلوها رخيصةً، في سبيل حماية الوطن، والمحافظة على مكتسباته.. وتركوا خلفهم ذريةً ضعفاء، يكاد يتخطفهم الناس، لولا عناية المولى وعناية الدولة، وهذه اللجنة الأهلية. كان بإمكان (ماما نورة) أن تعيش حياة مخملية، فهذا قدرها، ومن حقها أن تحيا كذلك، ولكنها اختارت أن تكون (شعبوية).. تعيش مع الناس، وفي الناس، ومن أجل الناس، ومستعينة في حماسها لأداء الواجب بهؤلاء الناس. بدأت (ماما نورة) رحلتها (مع الناس) من أبها (رائدة ريفية) قبل ربع قرن، في مجتمع عسير، حيث تصورت - وكانت على حق - أن المرأة (العسيرية) سوف تكون (مفتاح) التنمية، السبيل الأسرع للارتقاء بمعيشة المرأة هناك، ووضع المرأة العسيرية على عتبة القرن العشرين، مقدرة حجم وهول تأثير المرأة - عندما تتاح لها الفرصة - على تغيير مفاهيم واتجاهات وتوجهات: الوالد الزوج والولد، نحو الأفضل والأجمل.
وقد صدق حدسها، وهذا ما أكدته الدراسات الاجتماعية الحديثة، التي ترى في المرأة المدخل الطبيعي والسريع لتنمية المجتمعات المحلية في العالم الثالث. ثم واصلت (ماما نورة) رحلتها مع العمل الاجتماعي في القصيم، يسندها رفيق دربها، واستبدلت عنوان مهمتها من رائدة ريفية إلى رائدة تنويرية، في محيط مجتمعها المحلي.. وساعدتها خبرتها العسيرية السابقة في (اختراق) بعض (التابوهات) الاجتماعية والثقافية في المنطقة، ولكن بهدوء وتؤدة، تناسب السمت والعرف القصيمي في التعامل مع الأمور، وهذا فن لا يجيده الكثير، ولكن (ماما نورة)، تجيده بامتياز.
خذ مثلاً (منتدى فتاة القصيم).. وهو لقاء أسبوعي نسائي، ترتبه (ماما نورة) مع فتيات واعدات، وبراعم متفتحات، من فتيات الوطن في المنطقة.. لقاء ذو طابع حواري، حول جملة من قضايا الساعة والوطن، وما يقع في دائرة اهتمامات فتاة قصيمية يافعة، تعيش في بدايات القرن الواحد والعشرين، والألفية الثالثة، حيث تدور في المنتدى الحوارات الهادئة بين الحاضرات من الفتيات، في جو (ديمقراطي): حر التفكير، إسلامي الفكر، سعودي التوجه.. وصولاً إلى أنسب المعادلات، التي يمكن أن تعيش وتحيا وتتصرف بموجبها الفتاة السعودية الصغيرة، في سياق هذا البحر المتلاطم، بين قوى الجذب والطرد.. وهي تجربة فكرية اجتماعية ما أظن أن أحداً سبق (ماما نورة) عليها.
أخيراً، وعودة على موضوع اللجنة النسائية لرعاية أسر شهداء القصيم.. فإن الإنجاز الأعظم لهذه السيدة الفاضلة - فضلاً عما تقدم - هو أنها استطاعت عبر هذه (اللجينة)، مع كوكبة متميزية من نسوة القصيم، من إرساء فكر وطني متميز، يعضد ويزكي جهد الدولة الأمني، في تخليص المجتمع من ظاهرة الإرهاب المقيتة، التي غزت بلادنا، وأصابت مجتمعنا، وتلبست - للأسف - فئة من شبابنا.. فأيقظ هذا المشروع الاجتماعي - الإنساني روح المواطنة، وأثار حس المشاركة، في هموم الوطن والمجتمع والناس.. خاصةً مع قضية شغلتنا وشاغلتنا - أشغل الله هؤلاء في أنفسهم. وتمكنت هذه اللجنة - رغم قصر عمرها - من تحقيق الكثير، وإن كان أمامها الكثير.. المهم، أنها بدأت، وبدأت تؤتي أُكلها، ولو بعد حين. كما نجحت (ماما نورة) عبر هذه اللجنة، أن تغير الصورة النمطية الخاطئة في أذهان البعض عن المنطقة، إذ أثبتت من خلال جهد اللجنة، أن المرأة القصيمية في قلب الحدث، وعلى مستوى المسؤولية، وأنها امرأة جديرة باحترام الوطن على اتساعه، وتقدير المواطن على تنوع مشاربه..
وأثبتت المرأة القصيمية - أيضاً - أنه عندما يأتي الأمر إلى الوطن، فإنها في مقدمة الركب، وعلى رأس القائمة، تتقدم الصفوف، وتشحذ الهمم، وتعتلي القمم، في التصدي لمعركة الوطن مع الإرهاب، وتسهم في الجهد الوطني الإنساني.. ف(خلفت) شهداء الواجب خيراً: في أمهاتهم، وزوجاتهم، وفلذات أكبادهم - رعايةً واهتماماً، مساندةً وإنفاقاً..
لقد أصبحت لجنة رعاية أسر الشهداء بمنطقة القصيم منبراً للتنوير، ومنصةً للتثوير، وسلوى ساقها لنا العلّي القدير.. وأنموذجاً أرجو أن يُحتذى به في وطننا الكبير. شكراً ماما (نورة)... نورٌ على نور..
|