أستاذ كبير من أساتذة الصحافة العربية، والملم بأحداث كثيرة تدور حول العالم، حدَّثني ذات مساء عن المشروع الاستعماري الغربي، والمشروع الأمريكي، اللذين يصبّان في مجرى واحد، وينحوان ناحية الضدِّ لأيِّ تجمُّع عربي من أيِّ نوع، وتسعى كلُّ مشاريعهم إلى التفتيت العرقي والطائفي، ودائماً لا تصف أمريكا مَن في العراق بالعرب، وإنّما تصف فئة بالسنّة، وأخرى بالشيعة، وثالثة بالكالدانيين، وهكذا، ولمَّا تصف المصريين وتثير قضاياهم تنحو ناحية ثنائية (مسلم ومسيحي)، أسهب صديقي الأستاذ في علم السياسة في هذا الكلام الذي أتفق فيه معه تمام الاتفاق، بل وطالبته بكتابة هذا الكلام باختصار في مقال لعلَّ البعض يلتفت إلى أهمية الحذر من الوقوع في ثنائية وطنية، تكون من شأنها بعد قليل من الوقت أن يخاطب كلُّ طرف الآخر باعتبار أنّه (آخر) بالرغم من أنّ كليهما نسيج واحد في المواطنة، وهذا ما اتضح جليّاً في العراق، لمَّا اشتعلت نار الفرقة بين السنّة والشيعة، وأخذ غلاة كلِّ طرف يبيح ذبح (الآخر) من الطائفة الأخرى.
لكن الأستاذ ردّ بأنّه حاول الكتابة في هذا الطريق لكن كانت كتاباته لا ترى النور بسبب رفض نشرها من المسؤول عن النشر في صحف ورقية وأخرى إلكترونية.
تعجّبت - طبعاً - من هذا الكلام، كيف يرفض عاقل نشر هذا الكلام، الذي يحمل في طياته خطورة كبيرة على القومية العربية، والتجمُّع العربي - ولو شكلياً - أو على مستوى الورق من دون التنفيذ.
لكن زال تعجُّبني لمَّا - بعد قليل من بدء الحوار - طالبني بالحيادية في الكتابة ... صمت برهة إجبارياً لأنّه أخذ يواصل الحديث من طرف واحد قائلاً: لا بدَّ أن نتخندق في ظل هذه الأحداث الدائرة من حولنا .. قال علينا أن نكتب لكن لا نستعدي أحداً، لأنّ المرحلة الراهنة شديدة الخطورة.
هنا انتهى الحديث من جانبه، صمتُّ برهة، استأذنت مشيت في اتجاهي، التفتُّ عليه تعجُّباً، ثم واصلت المسير، وعدت أتساءل بيني وبين نفسي إذا كانت الكتابة الحيادية تعود عند البعض إلى الخوف من الاستعداء، فلماذا إذن نكتب والمفاهيم خاطئة، إنّ الكتابة الحيادية هي الكتابة الصادقة بعرض وجهة النظر الموافقة والمعارضة، ثم قد أضع رأيي أو لا في النهاية، هذه هي الكتابة المحايدة، مثل الباحث في المعمل لا يمكن أن يعمل في ظل العمل على عدم استعداء الصديوم على الماء فيمنعه من الفوران بمجرَّد السقوط فيه.
الكتابة الصحافية والبحث العلمي لا بدَّ أن يتفقا في المعملية الفكرية، والموضوعية في البحث بعيداً عن الأهواء الشخصية، حتى نكون منصفين، وحتى نكون في مقدمة الصفوف لمَّا يسجل التاريخ ما نكتب عبر صحافتنا العربية، ستجد الأجيال اللاحقة الغث والسمين، فيستطيع المستنير تمييز الصالح له من الطالح، وسيذكرون أنّ هناك من صدقوا في كلامهم ومن كذب على نفسه وتخندق وخندق صحافته معه.
نرى اليوم تسطيح الفكرة إلى الحد غير المقبول، والنزوع طوعاً إلى دعم، وركوب الحصان الرابح من دون النظر إلى آليات الصراع في الحلبة السياسية والاجتماعية، والثقافية، المهم الركض خلف الحصان الرابح، وعدم الوقوف أمامه حتى لا تدهسنا حوافره.
في الفكر، لا يمكن أن نستعمل ألفاظاً مثل مكسب وخسارة، فالقيمة لا يمكن أن تسعَّر، ولا يمكن إبعاد الصراع الذي نعيشه الآن بوصفنا عرباً بين ما نعانيه من مشكلات داخلية وخارجية وبين ما يواجهنا من عمليات تحريف واضحة لكلِّ مظهر من مظاهر الرقي الثقافي من البعض بتهميش قضايانا حيناً، وبالتحييد أحياناً، بل ويطالبوننا بالحيادية بمعناها المغلوط لديهم، بل ويحاربون كلَّ بادرة شجاعة، على رغم من كثرة من قُتلوا في سبيل قول الحقيقة، وسرعان ما يتم تصنيف صاحب الكلام ب(الآخر) الذي تجب محاربته ... فقط لأنّ كلامه لا يروق لنا..!
الصحافة لا يمكن أن تتخندق في زمن الحرب، أو في غيره، والفكر وإشكالاته وصراعاته لا يمكن أيضاً أن يقولب ليتم إبعاده وعزله، بل على العكس، فمواجهة الواقع والعمل على إزالة أزماته والوقوف بوضوح عليها لعلاجها والتبصير بها هو الدور الحقيقي للكاتب بوجه خاص، والصحافة الشريفة بوجه عام .. والإعلام الحقيقي حتى تكون الصورة أكثر وضوحاً.
|