يروي الكاتب الأمريكي المعروف توماس فريدمان عن جدته أنها تقول: (إياك أن تتخلى عن القرن القادم) لدولة تراقب محرك (قوقل) على الإنترنت!. ويعلق فريدمان على عبارة جدته بالقول: (ما ترمي إليه جدتي بهذا الكلام هو تأكيد عدم إيمانها بإمكانية انتماء المستقبل لدولة - وهو يعني الصين هنا - تحد من قدرة مواطنيها على اكتشاف المعرفة، وارتياد آفاقها)..! ويعلق أحد الأصدقاء الذين يكرهون أمريكا والثقافة الأمريكية كره العمى، بالقول: (غير أن الواقع يقول: إن هذه الدولة (الصين) التي لا تهمها الحرية المعرفية، وتضع العقبات في طريق الوصول إلى المعلومة، باعتمادها حجب مُحرك (قوقل) مثلاً، هي القوة التي ستكتسح العالم في القرن الواحد والعشرين، وستطبع بطابعها وثقافتها المستقبل، رغماً عن أنف فريدمان وجدته..)! ويُعلق ساخراً.. (دع ابنك يتعلم في الصين، فهي ستكون في زمنه، وربما في زمن أبنائه، القوة المسيطرة ثقافياً واقتصادياً على العالم، وليست أمريكا والغرب بكل تأكيد).
لا تهمني أمريكا ولا تهمني الصين، فالمهم هو (الوطن) الذي انتمي إليه، وكيفية إلحاقه بالركب المتقدم، وتنميته، وتخليصه من (التخلف) الذي يُعاني منه، بغض النظر عمّن يكون في المقدمة، الغرب أو الشرق، أمريكا أو الصين.. ولكن من العدل أيضاً القول إن ثقافة اقتصاد السوق، التي انتشلت الصين من الخلف، ومن التأخر، أو من (الاقتصاد المُخطط)، ووضعتها في المقدمة، أو بصورة أدق: جعلتها أحد أفراس الرهان في سباق الحضارات، كانت (الثقافة الغربية) التي تبنتها الصين مؤخراً، أو قل: (استوردتها) من الغرب، وحققت بها ومن خلالها ما حققته كما تقول الأرقام. (معدلات النمو الاقتصادي في الصين من أعلى المعدلات في العالم).. لذلك حاولت الصين حتى الاستماتة الالتحاق ب(منظمة التجارة العالمية) التي هي منتج ثقافي غربي 100%، ورضخت لشروطها، على الرغم من أنها - كما يحلو للبعض أن يسميها - أسلوباً (استعمارياً) جديداً، ومع ذلك قبلت الصين الالتحاق بها كي تحافظ على تفوقها الاقتصادي وتحل مشاكلها الإنسانية، وقد أعلن مجلس الدولة (مجلس الوزراء) الصيني أن حوالي ألف قانون ولائحة قد تم إلغاؤها أو تعديلها منذ انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية حتى الآن.. إذن فالمعركة اليوم (اقتصادية)، وحسب شروط (الغرب) لا الشرق.. الأمر الآخر الذي تؤكده ظاهرة تفوق الصين في صراعها مع الغرب أن (القتال) لم يعد كما يتوهم الماضويون، هو الشكل (الأهم) للصراع بين الأمم، كما كان الوضع في الماضي، ولو أدركنا (فقط) معنى هذا (التحوّل) في مفهوم الصراع، لوضعنا أقدامنا كعرب ومسلمين على طريق المضي نحو الحضارة، خصوصاً أن مفهوم (القوة) التي أمرنا جل شأنه بإعدادها، اختلفت عما كانت في الماضي.
وهنا النقطة المفصلية الأهم.
والصين التي تمارس حجب (المعلومة) عندما تضع الضوابط على محرك (قوقل) البحثي في الداخل الصيني، ستصل حتماً إلى طريق مسدود، مثلما وصلت مع (الاقتصاد المخطط) إلى نفس النتيجة. فالتواصل بين الحضارات - كما ترى - هو الذي يخلق (النهضة) الحضارية. وعندما يتم تضييق قنوات التواصل بين الثقافات، كما يحصل في الصين، في الوقت الذي نجد فيه أن معدلات النمو الاقتصادي تصل إلى الذروة، وإلى معدلات قياسية، فإن مثل هذا التضييق على التواصل لا يمكن أن يستمر، فقد علمتنا التجارب الإنسانية التاريخية أن (الانتعاش) الاقتصادي للشعوب يفرز بالضرورة مطالب فكرية شعبية، يأتي مطلب (الحرية الفكرية) على رأس أولوياتها، فضلاً عن أن الصين التي هي جزء من العالم، ستكتشف في النهاية أنها بتمسكها بأسلوب (حجب) المعلومة عن الداخل الصيني، هي في الواقع تحارب التكنولوجيا، والتي ستنتصر بلاشك في النهاية، مثلما انتصرت ثقافة اقتصاد السوق الغربية.
ومثلما هدمت التكنولوجيا (الرأسمالية) الجدار الفاصل بين الألمانيتين، وألحقت الأضعف بالأقوى، سيتكرر المشهد في الصين بشكلٍ أو بآخر، حيث لن يقف سور الصين العظيم حائلاً في وجه تكنولوجيا اختراق الحجب، ستنتصر التكنولوجيا حتماً، وستنفذ المعلومة بالقوة أو باللين إلى الصينيين، وسيفرض الإنسان الصيني في المحصلة ما يريده فرضاً على حكومته.
الغد، وتكنولوجيا الغد، تؤكد أن (عولمة) المعلومة، لتصبح حقاً مشاعاً للجميع، قادمة، وستحطم أسوار (الخصوصية). وأن أولئك الذين يُطالبون بحماية (الخصوصية) الثقافية الصينية من أن تخترقها الثقافة القادمة من الخارج، هم تماماً كمن (يحلمون) بقدرتهم على حماية (ثقافتنا) من التأثر بالقادم من (الآخر) عن طريق الحجب.. وإذا لم تخنّي الذاكرة التاريخية التي يريدها البعض أن تكون (ضعيفة)، فقد خشي الأجداد - أيضاً - من ثقافة (المنقبين) عن النفط عندما قدموا إلى أرضنا، خوفاً على (خصوصيتنا) من أن يُؤثروا فيها، ونصحوا الأب المؤسس الملك عبد العزيز -رحمه الله- بمنعهم من (التنقيب)، وطردهم، كما تقول الوثائق التاريخية، فلم يستجب، فباءت (محاولاتهم) بالفشل، واليوم ها نحن نحمد الله جل وعلا على فشلهم، فلو أطاع - رحمه الله - هذه النصيحة لكنا في ظلام دامس وجهل وضعف وجوع وضيق ومرض وفقر مُدقع. وأظن أن التاريخ سيعيد نفسه بشكلٍ أو بآخر في المستقبل، وسنكتشف آنذاك أن عدم إذعان قادتنا لبعض (نصائح) البسطاء اليوم ستنقلنا إلى آفاق المستقبل غداً.
الصين جزءٌ من العالم، ستتأثر حتماً بالخارج، شاء الصينيون أم أبوا. ونحن أيضاً كذلك.
|