Sunday 30th July,200612358العددالأحد 5 ,رجب 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

زارنا الملك.. زارنا الملك..
د. يوسف بن أحمد العثيمين

نعم، زعماء الدول في العالم يزورون المناطق والأقاليم في دولهم، مثلنا مثلهم.. ولكن، كيف؟ ولماذا؟.. هنا، الفرق بيننا وبينهم..
معظم زعماء الدول يزورون المناطق والأقاليم لأهداف سياسية فردية، أو لأغراض انتخابية بحتة.. قبيل الانتخابات، أو عند قرب حلول موعد التجديد.
وتتسم تلك (الزيارات الرئاسية) ب (الانتقائية) الشديدة في كل شيء.. بداية، هناك (انتقائية) في اختيار الجمهور، حيث يتم ترتيب واختيار لقاء الزعيم بجمهور معين، وشريحة محددة من المجتمع، وهم الشريحة التي يعتقد أنها تمثل قاعدة الزعيم الانتخابية، التي سوف تحصد له الأصوات في صندوق الاقتراع.
ثم هناك (انتقائية) في المواقف والمواقع التي يتم بها اللقاء، وحرص شديد على اختيار اللقطات والزوايا التي سوف تتم بها الزيارة، بحيث تتحول الزيارة الرئاسية إلى عملية (إخراج) لفيلم سينمائي احترافي بقصد إحداث أعمق أثر في عقول وعواطف الحاضرين، والمشاهدين على التلفزة، أكثر من كونها زيارة بر وصلة، وتقوية لحمة، وزيادة ألفة، وتلمس حقيقي لاحتياجات الناس، والاهتمام بشؤون المواطن البسيط في المناطق.
ثم هي انتقائية بالتوقيت والوقت، حيث يحرص (المخرجون - handlers) للزيارة الرئاسية أن يكون الوقت قصيراً جداً، وتسمى بأدبيات العلوم السياسية (وقفة انتخابية)، أو (فرصة تصوير - Photo opp) بلغة الإعلاميين، حيث الاحتكاك بالجمهور يكون محدداً جداً، من أجل ألا تحدث مفاجآت من الغوغاء والدهماء، (تخدش) الصورة السينمائية المثالية للزيارة الرئاسية، مما يحرج الرئيس أمام الناخبين، ويؤثر على شعبيته التي تُقاس يومياً، وكأن الرئيس مُنتج تجاري.
وأخيراً، تتسم تلك الزيارات بإطلاق الوعود البراقة باقتراح المشروعات، ومنح المزايا، وتخفيض الضرائب، وزيادة فرص العمل، وتحسين مستويات المعيشة.
ولكن غالباً ما تنتهي هذه الوعود ب (قبض الريح)، وتتبخر ووعود الساسة، ومعها تذهب أحلام الجماهير كالعصافير.
واضح أن هذه الزيارات الرئاسية عنوانها العريض (المكافيلية السياسية) فهو سيد الموقف، والموجه الأساس لتلك الزيارات المناطقية، التي غالباً ما يتوارى الزعيم عن الأنظار بمجرد انتقاء الهدف الانتخابي المباشر، وتتوارى معه المنطقة المزارة عن (الشاشة الوطنية)، رعايةً واهتماماً.. حتى أن وسائل الإعلام، وبعض المعلقين، والمحللين السياسيين، أصبحوا (يتندرون) على هذه الزيارات، وينظرون إليها باعتبارها نفاقاً سياسياً، أو على الأقل، وسيلة سريعة لتحقيق مكاسب آنية، مما أفقد ثقة الناس بتلك الزيارات.
أما الأمر - بالنسبة لنا - فجد مختلف، ف(الزيارات الملكية) مناسبة وطنية جماهيرية، ذات طعم ولون ومذاق خاص، وتعبر عن ثقافة سياسية، ذات جذور محلية، نابعة من (خصوصية) المجتمعات العربية التقليدية، ذات الهرم الأبوي، الذي يمثل فيها شيخ القبيلة - رأس الدولة - الرمز الذي تجتمع حوله فكرة الدولة، وتتأصل في شخصه قيمة المواطنة: حقاً وواجباً.
إن مجتمعنا - في أغلبه كان مجتمعاً (عشائرياً قبلياً أسرياً) ويتصف بالتغير والتشتت والتناثر.. لا يعرف فكرة الدولة المركزية المستقرة، التي تبسط نفوذها على حدود معروفة، ولم نعرف حياة الاستقرار إلا مؤخراً... حتى ما يُسمى ب (الحاضرة)، فإنها كانت تمثل جزراً منعزلة، في الخارطة الجغرافية والاجتماعية والبشرية، حيث تجد الناس تتقاطر حول الواحات (الأحساء - القصيم) أو حول مراكز دينية (مكة المكرمة - المدينة المنورة).
وحتى هذه (الحواضر) لا تربطها صلة عضوية وثيقة بما حولها، سوى ما تتطلبه عمليات (المقايضة) للأرزاق، أو (الحماية) للطرق من عدوان (الحنشل) وقُطاع الطرق.. وترتب على ذلك عدم وجود (مؤسسات دولة) بالمعنى الذي نعرفه الآن، أو(مؤسسات مجتمع مدني) يتفاعل الناس من خلالها مع بعضهم بعضاً، أو مع الدولة المركزية.
هذا هو الإطار السياسي والاجتماعي والثقافي الذي نشأ في ثناياه المجتمع السعودي، والمملكة العربية السعودية، كما نعرفها - اليوم - دولة عصرية حديثة، ولكنها في نفس الوقت، حافظت على تقاليد اجتماعية، وثقافة سياسية، تضع رأس الدولة في مركز الجهاز العصبي، التي تجتمع حوله صلة المواطن بالدولة، وصلة الناس ببعضهم البعض، حتى مع وجود مؤسسات الدولة الحديثة..
لذا نجد - على سبيل المثال - أن أبسط طلبات المواطن (تسجيل في جامعة، طلب للضمان الاجتماعي، شمول معاق بخدمة، طلب علاج).. نلاحظ أن المواطن يتجه لرأس الدولة، أو أمير المنطقة، أو الوزير المختص، مع أنه بإمكان (صاحبنا) المواطن اختصار الطريق، والتوجه مباشرة للموظف المعني مباشرة في المصلحة الحكومية، (وقضى لزومه) دون عناء، أو وعثاء سفر، واستغنى عن المرور بهذه الدورة البيروقراطية وأراح نفسه والمسؤولين على اختلاف مستوياتهم.
في هذه السياق الاجتماعي والسياسي، نشأت تقاليد سياسة (الباب المفتوح)، وكذلك انطلقت فكرة (الزيارات الملكية) للمناطق، التي بدأها الملك المؤسس عبدالعزيز، ودرج عليها أنجاله من بعده.. إذ يذكر الأمير سلطان، ولي العهد، في جلسة عامة، أن الملك عبدالعزيز كان من عادته أن يقضي شهراً كاملاً في رحلة لإحدى مناطق المملكة، كل عام.
وواصل الملك سعود هذه التقاليد الراسخة، ومن مِنَّا لا يذكر - أو تذكر له - (جنيهات عبدالعزيز، وصرر سعود) أثناء تلك الرحلات الملكية؟
ثم اختلفت الرحلات الملكية في المظهر، والوجهة، وبعض التفاصيل، والمدة، حيث تطورت لتأخذ شكلاً أكثر تفصيلاً وتنوعاً وشموليةً، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه - الآن - لتصبح (كارنفالاً) وطنياً ملوناً، ومؤتمراً سياسياً شعبوياً، يتضمن خطباً ملكيةً، وتدشين مشروعات وطنية تنموية، ومناسبات احتفالية، لاستعراض (أجمل) وأمتع ما لدينا في المناطق، من فنون وآداب وشعر وثقافة وغناء وحداء ومواهب، تعكس - فعلاً - ذياك الغنى والثراء، والتنوع والأصالة، التي تتميز بها كل منطقة من مناطق المملكة، وأصبح المواطن البسيط يتطلع لهذه الزيارات، ليس فقط للإشباع (الرمزي) الذي يعبر عن رغبة فطرية لدى إنسان -أي إنسان - ل (لقاء) الساسة، بل إنه يترقب - أيضاً - مكرمة هنا، وتكريماً هناك، أو فصل خطاب في شأن محلي أو عام، يتعلق بحياته ومعيشته.
ويزكي قبول هذه الزيارات الملكية في نفوس الناس، تلك (العفوية) و (الشعبوية) التي تتسم بها هذه الزيارات، و(السهولة) التي يصل بها المواطن لمصافحة الملك أو ولي العهد أو الحديث معه، فالتوجيه (لدى الطبيشي) أن تُفتح الأبواب، ويُستقبل الجميع، ويُسلِّم الجميع، ويُصافح الجميع والصلاة مع الجميع - وإن صادف يوم الجمعة، فالصلاة في الجامع الكبير مع الناس.
وبعدسة الباحث والمراقب، فإنه يمكن القول بأن هذه الزيارات الملكية أصبح لها دلالات ومغازٍ، حتى بلغة العصر.. فهي - بمعنى من المعاني - تصويت شعبي بالثقة، وتفويض شعبوي على (برنامج الملك السياسي والاجتماعي والاقتصادي) كما أنها تحقق للمواطن البسيط في المنطقة فرصة لممارسة السياسة بمعناها البسيط، وتخفف من الشحنات، أو الاحتقانات العاطفية، لدى البعض، أو تعدل من مواقفهم تجاه بعض القضايا المحلية أو الوطنية.
وهي - في ذات الوقت - فرصة لرئيس الدولة أن يلتقي - مباشرة - بشعبه: يرى، ويطلع ويسمع ويشاهد (دون وسيط، أو فلتر، أو برتوكول).. وكثيراً ما سمعنا عن مواقف وطرائف يمر بها الملوك أثناء زيارتهم للمناطق، وتكون سبباً في نشأة قناعات جديدة للحاكم، أو تعديل رؤى، أو سياسات للدولة، أو تعيينات كبرى في الدولة، بناء على الزيارات الملكية.. وما كانت لتتم لولاها..
فالزيارات الملكية ذات مسار (مزدوج)، تتيح للمواطن صلة مباشرة بالحاكم: ترقباً، وسُؤلاً، وطلباً، ومواجهةً.. وتتيح للحاكم تواصلاً عفوياً، وتعرفاً على الناس، واطّلاعاً مباشراً على أحوال الوطن، وتذكيراً (أدبياً) بمسؤوليات الدولة تجاه المواطنين وقضاياهم وهمومهم، والعمل على تسديدها - خاصة عندما يراهم رؤيا العين.
هل ما زالت الزيارات الملكية ضرورية؟ نعم، أزعم أنها في غاية الأهمية، وتؤدي وظائف سياسية واجتماعية لا يمكن الاستغناء عنها في سياق مجتمعنا، وتركيبتنا السياسية والثقافية والاجتماعية.. ولذا، ينبغي المحافظة عليها، ومأسستها أكثر فأكثر، وعدم الاستجابة للرأي الذي ينادي بأنها أسلوب عفا عليه الزمن، ولا يتناسب مع منطق الدولة الحديثة، بل ربما أن أهميتها زادت الآن أكثر - خصوصاً في ظل تعقد بعض الأمور، والانشغال المستمر للحاكم في قضايا دولية ومحلية، قد تقلل من تعرض الحاكم المباشر لشعبه، خلافاً لما كانت عليه الأمور في السابق.
ويكفي دلالة على نجاحها وأهميتها، والوظيفة الأساسية التي تؤديها في حياة المواطن البسيط، أن ترى وترقب مشاهد اهتمام الناس بالزيارة، وحرصهم على المشاركة في الفعاليات المقامة بمناسبة الزيارة الملكية، واصطفاف الناس على جنبات الطرق: رجالاً ونساءً وأطفالاً، للتعبير عن فرحتهم، دون توجيه من الحزب أو المخابرات!
هل الزيارات الملكية قابلة للتطوير؟ نعم، وبكل تأكيد.. إذ إن هناك مجالاً واسعاً لأن تكون أكثر تنظيماً وتحديثاً وشموليةً.. يأتي في مقدمتها، ضرورة الحرص على استقطاب شرائح المجتمع التي لا تجيد فن (مداحمة الناس) و (خجولة) خاصة الشباب، وفئات المهنيين، كالأطباء والمهندسين، وأساتذة الجامعات، والنخبة المثقفة.
ثم هناك حاجة إلى أن يكون هناك حوار أبوي مع الحاكم في المنطقة، كالتي كان يقوم بها الملك فهد - رحمه الله - في الجامعات السعودية، كما قد يكون من المناسب أن تكون الزيارات الملكية (دورية)، بدلاً من ارتباطها بالبيعة.. فهناك مناطق لم تنل نصيبها من رؤية الحاكم بالعين المجردة منذ عقود، وهذا ترك (ندوباً) تحتاج إلى (مداواة) بزيارات دورية.
وفي ذات السياق تحتاج المرأة والطفل إلى أن يكونا أكثر حضوراً في هذه المناسبات، وتتاح لهن الفرصة للتعبير عن الفرحة، وما يجيش في صدورهن من محبة وتقدير وولاء للحاكم، ولا بد من (ابتداع) وسائل تناسب ظروفنا لإشراك المرأة في الفرحة معنا نحن الرجال، فلهن مثل الذي عليهن وليس للرجال عليهن درجة في هذا المقام.
والمرجو - أيضاً - أن تكون الزيارات الملكية فرصة لاكتشاف المهارات والمواهب والهوايات المحلية، وتشجيعها.. ولن تجد هذه المواهب فرصة ل (التبرعم) أكثر من هذه المناسبة الملكية.. فالتركيز على نفس المقدمين والمعلقين والفنانين والشعراء (يحرم) المتطلعين من الصغار لإظهار مواهبهم وقدراتهم أمام الملك وولي العهد.
والمأمول - أيضاً - ألا ينزلق أمراء المناطق إلى الجنوح نحو إغراء استقطاب (الاحترافيين) من الفرق الفنية من المناطق الأخرى.. فتشوا في مناطقكم فلديكم من المواهب والفن والأدب والثقافة ما يغني (استعارة) ما لدى المناطق الأخرى نريد أن نرى عروضاً تبرز طيفاً واسعاً من التعبيرات المناطقية، حسب طبائع الناس فيها: (جفسها، ورخوها، وناعمها) كما هم وكما يرغبون أن يعبروا عن أنفسهم.
نعم، نريد (جنادرية) مصغرة تصاحب الزيارات الملكية، بحيث تنشأ أنشطة وصناعة تراثية ومحلية حول هذه الزيارات، ولا سيما أن الزيارات الملكية تمتد إلى ثلاثة أيام، وهذا كافٍ لإنجاح أية فعالية جماهيرية - كما هو الحال في المجتمعات الأخرى.. وحبذا لو تصاحب الزيارة إجازة رسمية لمدة يومين.
أخيراً أتمنى على دارة الملك عبدالعزيز، وعلى أمير الثقافة والتاريخ - سلمان بن عبدالعزيز - رئيس مجلس الإدارة وبالتعاون مع وزارة الثقافة والإعلام، تبني مشروع إصدار كتاب عن الزيارات الملكية: تاريخاً وتوثيقاً وعرضاً، فالزيارات الملكية جزء لا يتجزأ من تراثنا الوطني، وثقافتنا السياسية وتاريخ الدولة السعودية.. هذا العمل الوثائقي سوف يجمع بين المتعة والفائدة لنا وللأجيال القادمة.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved