Tuesday 8th August,200612367العددالثلاثاء 14 ,رجب 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

شيئ من شيئ من
عن (الخبز الممطوط) أحدثكم!
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

اثار انتباهي خبر جاء في جريدة الشرق الأوسط يقول: (ذكرت صحيفة (شرق) التي تصدر في طهران أن أحمدي نجاد أمر الحكومة والهيئات الرسمية بتجنب استخدام المصطلحات الأجنبية في اللغة الفارسية. وقال أحمدي نجاد في نشرة أرسلها إلى الهيئات الحكومة إن جميع المصطلحات الأجنبية يجب أن تستبدل بترجمة فارسية مناسبة من جانب المركز الثقافي المسؤول عن تقديم المفردات الفارسية الأصيلة). وقد جاء في الخبر حسب الشرق الأوسط: (ووفقاً للقواعد الجديدة فقد ترجم تليفون محمول إلى: (تليفون يمكنك حمله بنفسك). وحلت كلمة (أجنحة دوارة) محل هليكوبتر. وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت كلمة تليفون دون ترجمة، فيما ترجمت كلمة فاكس إلى (كتابة من مسافة بعيدة). وأصبحت البيتزا (الخبز الممطوط)..! كما جاء بالنص في الخبر.
هذا الخبر أعادني إلى مرحلة الدراسة الثانوية في معهد العاصمة النموذجي، حيث كان أحد أساتذتنا يصر على الحديث باللغة العربية الفصحى، وكان يحتفي باجتهادات وتخريجات (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة أيما احتفاء، ولا يحدثنا بالعامية لا إذا غضب وخرج عن طوره، فتسمع مثلاً: (تعا لهون حمار) وعلى غرارها. وكان يحرص في الطابور الصباحي أن يضمنه فقرة بعنوان: (قل ولا تقل)، كان يستقي فحواها في الغالب من (قرارات) مجمع اللغة العربية في القاهرة. وكانت أغلب محتويات هذه الفقرة مجال تندر وتهكم من قِبل الطلبة، وأتذكر منها مثلاً: (قل: شطيرة، ولا تقل: سندوتش.. قل: مسرة، ولا تقل: تليفون.. قل: رائي، ولا تقل: تلفزيون.. قل: مذياع، ولا تقل: راديو.. قل: حسناً، ولا تقل: اوكي).. وعلى هذا المنوال ومثل هذه الأوامر!.. وكان أستاذنا (العروبي) لا يقف عند اجتهادات مجمع اللغة العربية، وإنما يبذل جهداً مماثلاً من تلقاء نفسه لتعريب بعض المصطلحات الوافدة، ويفاخر بأنه مبتكر تعريبها.. وقتها - وربما حتى الآن - كان الحجز على الخطوط السعودية أثناء الإجازات يتطلب جهداً شاقاً، لا مناص من (الواسطة) لإتمامه. وكان أستاذنا يسمي الواسطة (شفاعة محمودة)، لإخراجه من حرج كسر الأنظمة. وكان لا يتورع من شحذ هممنا نحن طلابه لإتمام هذه (الشفاعة) عندما يحين سفر المدرسين أثناء الإجازات، مقابل درجات (معدودات) في أعمال السنة كان (يغدق) بها على طالبه صاحب الشفاعة بكرم حاتمي!.. طلب مرة من أحد الزملاء (شفاعته) ليجري له حجزاً لدى الخطوط السعودية، وعندما مر به أثناء الفسحة سأل الزميل: أي بني، هل تشفعت لنا عند صاحبك الأريحي لنتمكن من السفر على (رحالكم الطيارة) - الخطوط السعودية كما كان يسميها - فأجابه: أما (حسناً) - أي أوكي - فبعد يا أستاذ، لكن (صاحب الأمر) أمضى أمره وضم اسمكم ومن تعولون إلى (قائمة الانتظار). فقال: على بركة الله. إنا إذن لمنتظرون!. ذهب الأستاذ في طريقه، وضحكات الزملاء ترافقه!.
أحمدي نجاد (وفارسيته)، ومجامع اللغة العربية وأستاذنا العروبي و(فصحاه)، لن تقف حائلاً أمام تلاقح الثقافات وتبادل المصطلحات، ولن تعطي من لا يملك ما لم (يُنتج)، مهما كانت المبررات ومهما كانت النوايا صادقة في المحافظة على الهوية. اللغة جزءٌ من الحضارة، وعندما تكون الحضارة تابعة لا متبوعة، ومستهلكة وليست منتجة، فإن هذه (التبعية) ستفرض نفسها وتجلياتها، ومنها مبتكراتها، فرضاً في النهاية، هذا منطق الحياة، كانوا (يعظوننا)، ويحذروننا من لغة (الإنقليز) قبحهم الله، وكان (الشعراء) العرب يصرون على أن اللغة العربية بحر لا يحتاج إلا (للغواصين) كي يستخرجوا من أحشائه الدر الكامن، كما كان يؤكد (حافظ إبراهيم) في إحدى قصائده التي كان من الواجب علينا (حفظها) كما يفرض مقرر (المحفوظات) في تلك الأيام.


أنا البحرُ في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواصَ عن صدفاتي

غاص أعضاء مجمع اللغة العربية إلى (قعر) البحر، تبعاً لنصيحة أو وهم حافظ إبراهيم، فلم يجلبوا لنا إلا مصطلحات أغلبها (متقعرة) ماتت قبل أن تولد.
وعندما كبرنا، وتعلمنا، وقرأنا، اكتشفنا أن الحضارة المتفوقة تجر معها الحضارة الأضعف، وتفرض نفسها وثقافتها ومصطلحاتها ومنطقها وفكرها وتجلياتها ومنتجاتها على (الثقافة) الأقل تحضراً، مهما كانت أماني الشعراء والوعاظ، إنه قانون الحضارات - أيها السادة - الذي لا نملك تغييره مهما حسنت النيات.
لغة (الخبز الممطوط)، بقدر ما هي مدعاة للتندر والسخرية، إلا أنها تشير إلى (المأزق) الذي تعاني منه ثقافات المنطقة فيما يتعلق بموضوع الهوية في أكثر من مجالٍ وليس اللغة فحسب.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved