Al Jazirah NewsPaper Tuesday  06/01/2007 G Issue 12518
مقـالات
الثلاثاء 20 ذو الحجة 1427   العدد  12518
ليست العبرة بالإمكانيات وإنما بدقة التنظيم
د. صالح بن سبعان

في طقسٍ أراده الله تعالى مثالياً لحجاج بيته الحرام هذا العام، حيث تراوحت درجات حرارته في مكة المكرمة وعرفات ومنى بين (27) و (23) ورياح في أغلبها ساكنة، ونسبة رطوبة بين (30) إلى (31) بالمائة، قضى الحجاج مناسكهم بيسر وسهولة جعلت العديد منهم يصفونها بالمثالية، ولله الحمد والشكر والمنَّة.

دعونا نخلع مواطنتنا قليلاً فلا نكون سعوديين، ولننظر إلى هذه المسألة بعين مجردة، محايدة، وبنظرة شخص أتى من خارج هذا المحيط، ولا علاقة له البتة به، جاء من بعيد زائراً يتفرج على هذه الظاهرة التي تتكرر سنوياً.. أعني ظاهرة الحج.

تنفتح كل منافذ وبوابات الدولة، فيدخل مكة المكرمة خلال أسابيع قليلة أكثر من ثلاثة ملايين بني آدم.. من شتى بلاد العالم، ما من قارة إلا وتأتي منها الآلاف وبعضها بعشرات - إن لم نقل مئات الملايين - قاصدين أماكن ثلاثة لا غير. ذكوراً وإناثاً.. شيباً وشباباً وأطفالاً. كل سحنات، ألوان، لغات، وثقافات العالم تحتشد هنا.

وفي مواعيد محددة تتحرك كل هذه الحشود لتؤدي منسكاً، تعود بعد تأديته، لتؤدي آخر في ساعة محددة، وهكذا في مساحة زمنية محددة لا تزيد على ثلاثة أيام، وعلى مساحة مكانية محددة بعضها يضيق فلا يتجاوز مساحة الحرم حول البيت العتيق، وبعضها يتسع قليلاً على صعيدي عرفات ومزدلفة.

ولتزداد الصورة وضوحاً أمامك، ضع في حساباتك أن عدد الأرغفة التي تم توزيعها بلغ أكثر من (65) مليون رغيف. أما الأنعام التي ذبحت واستهلكت من أغنام وجمال وأبقار فقد بلغت أكثر من (215) ألف رأس، بينما بلغ عدد ما ذبح من ذبائح الهدي والأضاحي (500) ألف رأس. وحين انتهت المناسك يوم الثلاثاء خلفت هذه الحشود من الحجاج (25) طناً من النفايات و(150) مليون حجر، تم جمعها بعد يوم واحد بمئات من الآلات الحديثة.

لا تسأل عن الكم الهائل من الإمكانيات والجهد والرجال يحتاجه عمل مثل هذا، ولكن سل عن دقة التنظيم التي أدارت كل هذا، خاصة عند رمي الجمرات.

منطقة الجمرات - لهذا السبب - أصبحت واحدة من أكبر عقد المناسك التي تمثل تحدياً جدياً للجهات المسؤولة عن تنظيم الحج في كل المواسم، وقبل عامين تسببت هذه العقدة بسبب التدافع في وفاة المئات من الحجاج في حدث كارثي زاد من عبء المسؤولية والتحدي الواقع على هذه الجهات.

وبحمد الله فإن الخطط المؤقتة التي وضعت لتنظيم الحجاج أثناء رمي الجمرات في يوم التعجل، وقبل الاكتمال النهائي لمشروع جسر الجمرات، أسهمت في وضع حدّ لمشكلات التدافع التي حدثت في الأعوام الماضية، مما أتاح للحجاج أن يقوموا بعملية الرمي بكل يسر وسهولة ودون حوادث تذكر، ولم تتعكر انسيابية الحركة على الجسر سوى لخمس دقائق عند الجمرة الكبرى، حين أصر بعض الحجاج على العودة من نفس مسار القدوم، أو السير عكس تيار الحشود، وبعد خمس دقائق عادت الانسيابية السهلة إلى الحركة مرة أخرى.

عملية تفويج الحجاج المتعجلين لرمي الجمرات ثاني أيام التشريق هذه وحدها تمت تحت مراقبة الف كاميرا تلفزيونية انتشرت في ارجاء مشعر منى وجسر الجمرات. والأخير وحده قام الدفاع المدني بنشر (32) فرقة إسعاف عليه لمساندة الهلال الأحمر، فضلا عن اتشار (1500) ضابط وفرد لعمليات الاخلاء والإنقاذ الطبي تحسباً لأي طارئ، إلا أن الله سبحانه وتعالى سلم وستر.

ولعل هذا ما دفع منظمة الصحة العالمية لأن تشيد بمستوى الخدمات الصحية التي قدمتها وزارة الصحة، والخدمات الطبية في وزارة الدفاع والحرس الوطني ووزارة الداخلية لحجاج بيت الله الحرام، إضافة إلى الإجراءات الوقائية والعلاجية التي أسهمت كثيراً في السيطرة على الأوضاع الصحية بينهم، حيث اكد الدكتور عوض ابوزيد مختار ممثل المنظمة الدولية أنها ظلت تتابع عن كثب الاستعدادات المبكرة التي قامت بها لجنة الحج المركزية برئاسة سمو وزير الداخلية.

كانت هناك متابعة ورقابة لصيقة على مدار الساعة لكل صغيرة وكبيرة، ما دفع وزير الأوقاف المصرية السابق محمد محجوب للقول (إن ما تضعه السعودية لضيوف الرحمن لا يمكن أن تنفذه أي دولة في دول العالم، إذ لا يمكن لأي دولة أن تستوعب هذا العدد الكبير من البشر من دون مشكلات).

ورغم مثالية تنظيم حج هذا العام، إلا أن المسؤولين ظلت أعينهم ترصد بحرص ويقظة أوجه القصور وأوجه الخلل ليضعوا لها الحلول منذ الآن، وقبل أن يؤدي آخر حاج مناسكه، تحسباً للموسم القادم وكأنهم في رهان تسابق مع الكمال.

فها هو سمو الأمير مقرن بن عبدالعزيز يؤكد بأنه وعلى الرغم من أن جميع الجهات قامت بتنفيذ الخطط وفق ما هو مرسوم لها وأن الحالة الأمنية والصحية كانت ممتازة، إلا أن ظاهرة الافتراش التي تحدث بسبب الحجاج المخالفين الذين ليست لديهم تصاريح بالحج، لا تفيد ولا تجدي للقضاء عليها أنصاف الحلول والحلول المؤقتة، بل لابد من وضع حلول جذرية لها.

لم يكتف ولاة الأمر بتحديد المشكلة وإنما - كما أشار سمو الأمير - صدر توجيه من ولاة الأمر لدراسة هذه الظاهرة من قبل الجهات المختصة مستعينة بالجامعات ومعهد خادم الحرمين لأبحاث الحج؛ لإيجاد الحلول المناسبة للقضاء عليها.

رغم كل هذا الجهد الخرافي الذي أنتج مردوداً يكاد يكون إعجازياً من حيث التنظيم الدقيق والتنفيذ بكفاءة عالية للخطط الموضوعة لن تتملكك الدهشة كثيراً حين تعرف أن خادم الحرمين الشريفين يقف على رأس مسؤولي الدولة موجهاً ومشرفاً، وواقفاً بنفسه في مواقع العمل خدمة لحجاج بيت الله الحرام.

ورغم هذا رد حين هاتفه سمو وزير الداخلية رئيس لجنة الحج العليا الأمير نايف يبلغه بنجاح خطة الحج قائلاً: أنا أهنئكم جميعا وأهنئ رجال الأمن قبل أن تهنئوني بنجاح الحج.

والآن يمكنك أن تسترد هويتك السعودية ومواطنتك التي سألتك في البدء أن تتجرد منها وتخلعها.. لتشعر بالفخر، ولكنه فخر مؤسس، وعلى أرض راسخة وثابتة من الأعمال التي تبرره.

أكاديمي وكاتب سعودي

dr-binsaabaan@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد