Al Jazirah NewsPaper Sunday  14/01/2007 G Issue 12526
مقـالات
الأحد 25 ذو الحجة 1427   العدد  12526
عبدالرحمن السدحان.. و(سيرتُه) (3 - 3)
د.أنور عبدالمجيد الجبرتي

* هل رأت والدة عبدالرحمن السَّدحان - رحمها الله- ابنها، في جلسة مجلس الوزراء يوم الاثنين، وهو يجلس على مسافة قصيرة، من الملك، والأمراء، وعلْية القوم؟ وماذا كان يدور في خاطرِها، وهي ترى طفلها الحبيب يتسنَّم المكان العالي، ويتولى المنصب الرفيع؟.

* وقفت، رحمها الله، ذات يوم على قِمة عَقَبة (ضلْع)، تودّع الطفل الصغير، ذا السادسة من العُمْر، يرحل مع قافلة غريبة، مسافراً إلى والده في جيزان، في مُسلْسَل رحلات متعددة، نزولاً نحو سهول تهامة، وصعوداً إلى جبال الطائف، في مشاوير البحث عن نِصف القلْب الآخر البعيد. قبَّل الطفل جبين والدته ووجنتيها، واحتضن كفيها في صدره، وقبَّلهما مودِّعاً، وانحدر مع القافلة، مهرولاً، ومتعثراً، يسمع صوت أمه، تدعو له وتبكيه. وعندما تلاشى الصوت، تلفَّت القلب البريء الصغير، ولم يَزلْ متلفتاً، نحو تلك الأحضان الرحيمة الدافئة، ولم ينقطع يوماً، متدثراً بذلك الحب العظيم.

* وهل تذكرت، رحمها الله، يوم الغطاء، البَارَّ، الجميل، عندما تشاجر عبدالرحمن الصغير مع أطفال زوجها، واقتضت السياسة المنزلية المحلية، في بيت متعدد الزوجات والأطفال أن تُعاقب طفلها الزائر، وتغلق عليه الباب خارجاً، فيقفُ باكياً ناحباً، وجهُه إلى الجدار، مقهوراً، وقد ظنَّ أنَّ ملجأ الحب الأخير قد لفظه، وأنَّ نبع العطف والاطمئنان الوحيد قد هجره. ولكن الطفل البار، المتعلق دوماً بأمه، يجفف دموعه ب(غترته)، وينهض متجهاً إلى غُرفة والدته، ليعتذر منها، ويلتمس عفوَها، ولكنه يجدها متمددة على فراشها، فيظن أنها نائمة، فلا يريد إزعاجها، ولكنَّ حبَّه لوالدته، وبرَّه بها، يجعلانه يخلعُ غترته المبلَّلَة بالدموع، ويصطنع منها غطاءً، يغطي به والدته، ويحاول أن يتسلل من الغرفة في هدوء، وإذ تستيقظ الوالدة مُنْتَفِضَة، فتأخذه بين ذراعيها، ويحتضنان بعضهما، باكيين في مشهد مُفرح، حزين، جميل، لا ينساه عبدالرحمن، ولا تنساه والدته، ولا ننساه نحن، وهو يمثل لنا، ذلك العهد الوثيق من الحب والبر، اللذين لايزالان يربطان عبدالرحمن السدحان بوالدته - رحمها الله- على الرغم، من تقادُم الزمان، وتسللُ الشَّيب، وزحمة الطريق.

* أم، هل تذكرت أم عبدالرحمن مشاويرها، تبحث فيها عن (الراعي) الصغير، يجوبُ المراعي الخاوية الموحشة، تحمل له معها خبزاً، وتمراً، وشاياً، وحلوى، تناديه باسمه من بعيد (فتردد صوتها الحنون سفوحُ الجبال المجاورة، لِتُحْدِثَ صدىً عذباً بمسُّ شغاف قلبي فرحاً وحنيناً، فأردُّ على الصوت القادم ب(لبِّيه.. يمَّه)، ثم أسعى عَدْواً للقائها، وما أن أراها حتى أُلقي بجسدي النحيل في حضنها، وكأنني في تلك اللحظة في روض من رياض الجنَّة.. وتبقى أمي الحبيبة معي فترةً من الوقت كأنها ثوانٍ معدودات قبل أن تستأذن للعودة إلى البيت، فأودعها بمثل ما استقبلتها به، حباً، وعرفاناً).

* ماذا، كانت ستتذكر، أم عبدالرحمن، وماذا تَدَعْ والطفل الصغير عَزف عن الطعام، حتى أوشك على الموت بين ذراعيها، أم رحْلَتُه الغريبة في (صندوق) البريد إلى الطائف، أم تغريبَتُه، المستمرة إلى الطائف، وجدَّة، والرياض، وجيزان، ولبنان، وأمريكا؟.

كيف تشعَّب مشوار الطفل الصغير المحب، وامتدَّ، حتى استوى على الجوديِّ، وفي قمّته العالية؟

* تتحول المراحل مع عبدالرحمن، تلميذاً، ومزارعاً، وراعياً، ومتأملاً، وباحثاً عن المرافئ الحياتية، والعاطفية. ويحاول عبدالرحمن، منذ طفولته الأولى، أن يضمد جراح الحرمان من رعاية الأب، والبعد الجغرافي عن الأم، ومكافحة (فوبيا) اليُتْم، رغم أن والديه كانا على قيد الحياة، ولكن ذلك يُحيل المعاناة إلى أسئلة وجودية مستمرة، وحيرة طفولية شاقة، واستِفْهاماتٍ عن الظروف، والأسباب، وخوف من المجهول والقادِم، وتَوْق إلى الاطمئنان، والاستقرار.

* ولكن لماذا، لم تجعل تلك الطفولة المبعثرة، وغير العادية، من عبدالرحمن، شخصاً غاضباً حاقداً شقيَّاً، معذَّباً ومنحرفاً؟ كيف صنع لنا ذلك الزمان الصَّعْب إنساناً لطيفاً، وصديقاً مهذباً، ومسؤولاً أميناً، قوياً، ومواطناً شريفاً؟

* إنَّه حبُّ الأم العظيم، وبرُّ الابن الكريم.

* كان ذلك الحب دائماً، الغمامَة التي يستظل بها في الهجير، والنسمة التي يسْتَبْرِدُ بها عند القيظ. وكان ذلك الحب، هو الماء الطيب الطاهر، الذي يغسل الأحقاد، والأضغان، ويداوي النَّدوب، والنتوءات، ويبارك المشاوير، والمنعطفات.

* نقرأ سيرة عبدالرحمن السدحان، فنقرأ حقاً قصة أمّ محبّة مباركة، وطفل عطوف بار، وحب عظيم كريم جمعهما، ولا يزال في المحيا والممات. ونحن إذ نقرأ هذه السيرة الجميلة، أو نراجعها معاً، إنما نمجِّد ذلك الحب، ونبارك ذلك البر، ونحمدهما، ونُظهر كيف يجعلهما الله مفتاحاً لكل خير، وفرجاً لكل كرب، وجلاءً لكل همّ، وغمّ وحزن، وعوناً على مشاق كل طريق.

* رحمك الله يا أمَّ عبدالرحمن السدحان، وجزاك الله عنَّا كل خير، إذ أهديتنا بحبك العظيم المبارك، هذا المواطن الشريف، والصديق النبيل.

* تلك سيرة عبدالرحمن السدحان، وقد انفتحت، ولكنها سيرة للبرِّ والحب، فليس لها أن تُقْفَل أبداً.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد