Al Jazirah NewsPaper Monday  05/02/2007 G Issue 12548
مقـالات
الأثنين 17 محرم 1428   العدد  12548
وقد ترجَّل واحد من فرسانها :
شيء عن واقع صحافتنا
د. صالح بن سبعان

كان ذلك منذ نحو أكثر من خمسة وعشرين عاماً، حين اجتمعت بالدكتور هاشم عبده هاشم بمكتبه بصحيفة (عكاظ)، مفعماً بعنفوان الشباب وحماسته لأن يرى وطنه يطاول أرقى الشعوب وأقوى الدول وأكثرها تحضراً، بعد أن أتاحت لي دراساتي العليا في بريطانيا وأمريكا فرصة الاحتكاك المباشر بهذه المراكز الحضارية في جامعاتها ومراكز أبحاثها، رحت في تلك المقابلة أطرح بين يديه - وهو رئيس واحدة من أكبر الصحف في المملكة - العديد من الأفكار التي تجول في ذهني وتحتشد في عقلي.

لن أنسى أنني وجدت منه آنذاك إصغاءً وتفهماً لما كان الكثيرون حولي يجدونه أفكاراً جريئة، بل وصفها بعضهم بأنها جريئة بأكثر مما ينبغي. ولكني خرجت من عنده باتفاق على أن أكتب في عكاظ مقالات تحت عنوان (رؤية واقعية) بشكل منتظم.. وقد كان.

وهكذا بدأت علاقتي بفارس الصحافة السعودية الذي ترجَّل عن صهوة (عكاظ) مع وعد منه، قرأته في (الحياة)، بأن علاقته بالإعلام لن تنقطع، واعتبر هذا الوعد بشرى بعطاء سيتواصل في موقع آخر يثري إعلامنا بتجربة الدكتور المعتّقة الثرة.

إلاَّ أن خبرة الدكتور هاشم الكبيرة التي تجاوزت ثلاثة عقود في ممارسة وإدارة العمل الصحفي، تجعل من الحديث عن استقالته مناسبة للحديث عن واقعنا الصحفي بشكل عام؛ إذ إن تقييم دوره التاريخي في هذا المجال من خلال تجربته الطويلة الممتدة، لمَّا يأن أوانه بعدُ، وإن كنت على يقين بأن تقييم هذا الدور سيصبح أكثر موضوعية ودقة إذا ما كتب يوماً قصة التجربة بشكل مفصل، وأعتقد أنه سيفعل يوماً ما، إن شاء الله، فهذا حق من حقوق الأجيال اللاحقة له، أن تطَّلع على فترة النهضة الصحفية في المملكة التي أعقبت فترة البدايات الحديثة والتأسيس، والتي لا يزال بعض أبطالها على قيد الحياة.

ولا شك أن لرواد هذه المرحلة، الذين ما زالوا على رأس التجربة كالأستاذين السديري والمالك، الكثير مما يمكن أن يدلوا به من شهادات تضيء الذاكرة الصحفية عند من التحقوا بالصحافة لاحقاً.

وإذا كنت قد أشرت إلى واحدة من هذه القضايا الصحفية التي أثارتها وتثيرها استقالة الدكتور هاشم، ألا وهي تفهمه وتجاوبه مع ما كان البعض يعتبره جرأة زائدة، فإن المسألة الأخرى هي استقالته في حدّ ذاتها.

وبالنسبة للنقطة الأولى فإنني ما زلت على قناعة تزداد يوماً بعد يوم، بأن واحدة من أكبر آفات العمل الصحفي عندنا تلكم الخطوط الوهمية الحمراء التي يضعها بعض مسؤولي إجازة المواد الصحفية، وخاصة مواد الرأي منها.

وقد اشتكى أكثر من كاتب صحفي متعاون من حقل الألغام الوهمي الذي يجعلك هؤلاء تسير فيه بحذر يحول دون كشف السلبيات بشكل واضح، كما يحول دون الإطلاع؛ إطلاع الرأي العام على بعض الأفكار النيرة والجريئة في إبداعيتها.

هؤلاء المسكونون بخوف لا مبرر له يشكلون ستاراً حديدياً في وجه الفكر الإبداعي. وقد كتبت من قبل هنا، وفي غير (الجزيرة) أيضاً، بل خلال الفترة التي أعقبت اتفاقي الأول مع الدكتور هاشم في (عكاظ) بأن البعض من هؤلاء يريد أن يجعل من الصحيفة مرآة يرى فيها المسؤول صورته كما يحب هو أن يراها، وأنها بهذه المثابة تتحول إلى صحافة (صدى) لصوت المسؤول؛ إذ لا صوت لها؛ فهي خرساء لا تتحدث لا عن نفسها، ولا عن قرائها.

والآن، وبعد ربع قرن، أجد أن الأمر لم يتغير كثيراً، رغم مساحة التعبير الكبيرة والواسعة التي أفردها ولاة الأمر لنا، ليس عن طريق التوجيه فحسب، وإنما بتقنين هذا الحق في التعبير، عبر مؤسسات وتشريعات لم نُحسن حتى الآن استغلالها وتوظيفها بالشكل الملائم.

وأستطيع من خلال تجربتي الخاصة مع الدكتور هاشم التي حكيت عنها قبل ربع قرن أو أكثر، أن أدلي بشهادة للحق بأنه كان أكثر وعياً وانفتاحاً على الجديد من الأفكار، وأكثر ترحيباً واحتفاءً بالجريء جرأة محمودة منها.

ورغم هذا ينهض في وجهك التخوف من أن يحرص من يخلفونه في إدارة الصحيفة على الاستمرار في نفس الاتجاه؛ لأنني أزعم بأن الدكتور نفسه لم يتقدم باستقالته إلا لأنه شعر بأنه قد أدى رسالته فيها، وأنه أعطاها كل ما يملك من فكره الخلاق.

وهو بالتالي سيكون تواقاً لأن يرى كيف ستكون عليه - شكلاً ومضموناً - على أيدي من يخلفونه، ويقيناً سيكون أكثر الناس فرحاً بكل إضافة تضاف إلى ملامحها وكل تجديد ينقلها خطوة إلى الأمام.

وهذا فيما أحسب هو التحدي الأصعب الذي يواجه المجموعة التي ستقود (عكاظ) بعد الدكتور هاشم.

هل يستطيعون أن يخرجوها من عباءة الدكتور بعد أن يخرجوا هم أنفسهم منها؟

بالطبع لا أقول هذا إقلالاً من مكانتهم أو تشكيكاً في قدراتهم وفي كفاءتهم، وهم المشهود لهم بها من واقع حال الصحيفة، ولكن يدعو إلى هذا القول أن الدكتور فيما لا يستطيع أن ينكر إلا مكابر استطاع أن يطبع على الصحيفة كإصدارة، وعلى أسلوب العمل فيها بصمته.

فقد كان الدكتور يشرف بنفسه على كل صغيرة وكبيرة في الصحيفة بدءاً من التدقيق في دوام الصحفيين بالدقيقة، مروراً بالمواد وصياغتها، انتهاءً بتصميمها واختيار الصور المصاحبة للمادة.

ومكابر من يزعم أنه كان لديه وقت لغير (عكاظ)؛ لذا فإن الخروج من هذه (الصيغة) المحكمة والصارمة، سواءً في سلوك وأسلوب العمل، أو في الشخصية التحريرية للصحيفة، والذي ظل لأكثر من (27) عاماً مستمراً، يبدو أمراً صعباً، ويحتاج بالفعل إلى جهد إبداعي جبار، ممن يخلفون واضعه ومرسخه، لطرح رؤية جديدة، مغايرة، مختلفة تعبر عنهم.

والآن، وقد اختار بمحض إرادته أن يستقيل ويمنح نفسه فرصة يرتاح قليلاً، ليستأنف رحلة العطاء في موقع آخر، لا يملك المرء سوى أن يحيي فيه هذه الشجاعة مرسخاً تقليد الترجل الاختياري لإفساح المجال وإعطاء الفرصة لمن يملك القدرة على الإضافة الحقيقية لهذا الصرح الذي هو أبقى من الأفراد مهما طال بقاؤهم على قمته.

أما عطاؤه هو في مرحلة بحق كانت دقيقة وانتقالية في تاريخ الصحافة السعودية، فسيبقى محفوراً في ذاكرتها، تطالعه الأجيال اللاحقة في الصفحة المخصصة لاسمه في هذا التاريخ، مقروناً بإنجازات تتحدث عن نفسها بأبلغ ما يمكن أن يتحدث عنها الدكتور هاشم عبده هاشم.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7692» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد