Al Jazirah NewsPaper Tuesday  13/02/2007 G Issue 12556
مقـالات
الثلاثاء 25 محرم 1428   العدد  12556
شعراء.. وسُكَّر.. وسياسة
أنور عبد المجيد الجبرتي

 
* هل يحبّ الشعراء الحلوى؟ هل يعشقون السُّكَّر المُذاب في الكؤوس والأكواب؟ لا نستغرب علاقة الشعر بالسياسة؛ فهي علاقة قديمة وفي كل الاتجاهات، ولكن ماذا عن: شعر، وسياسة، وسُكَّر؟!

* عندما يختلط إلهام الشعراء وهيامهم و(ارتفاعهم) بالسياسة يمكن أن يقودنا ذلك إلى أغرب (الكوكتيلات)، والذَّنب هنا، أو حتى المديح، ليس ذنب الشعراء، ولكنها السياسة التي يقول المثل الأمريكي: إنها تجعل أغرب الغرباء وأبعد الفُرقاء رفاق سرير واحد، ونتوقع أن يكون النَّسل كائنات مشوَّهة هجينة.

* هل يحب الشعراء السُّكَّر؟ ولكن ماذا يهمّنا في النظام الغذائي للشعراء؟ وهل هناك نظرية جديدة في النقد الأدبي تحاول فهم القصيدة بتحليل المطبخ الشِّعري، وأقصد مطابخ الشعراء الحقيقية وقائمة مشترياتهم الغذائية من الأسواق، وتأثير ذلك في اختيار القافية والوزن والمزاج الشعري؟ ما مسؤولية البقُول مثلاً عن الغازات الشعرية السامة واتساع ثقب (الأوزون) الإبداعي وتأثير ذلك في التلوث الإبداعي، ربما تكون هذه سفسطة، ولكن ماذا عن السُّكَّر؟!

* على ذمّة العدد السنوي لمجلة (الإيكونوميست) في عدد (الكريسماس) فإن الشعر والحلوى يمشيان معاً كما كان يفكر اليونانيون القدماء. عندما كان الشاعر الإغريقي الكبير (هُوَمر) ينام في مهده كانت أمه تمرّر على شفتيه لمسات من عسل النحل، وكان (أفلاطون) يعتقد أن الشعراء أنفسهم ليسوا إلا أسراب نحل هائمة تنتقي الأزهار وترتشف الرحيق فتخرج منها المعاني العذبة والتهويمات الجميلة، وكان الشاعر الإنجليزي الكبير (بيرسي شيلي) - الذي وُلد في أواخر القرن الثامن عشر وتوفّي في أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر - يحبّ السكر والحلوى حباً جامحاً. كان يهيم بالفواكه المجففة تيناً وتفاحاً وبرتقالاً، وكان يحشو جيوبه بالزبيب يأكله ماشياً وقاعداً ومستلقياً، وكثيراً ما كانت وجبة العشاء تتكون من إناء زبيب مليء يلتهمه كاملاً. وعشق (شيلي) العسل مدهوناً على خبز متلحف بالزبدة، أو ممضوغاً مع الشمع في فمه الحلوى؛ حيث كانت تسيل بقاياه على شفتيه وذقنه.

* لا نعرف مذاهب السُّكَّر والحلويات عند الشعراء القرب قديمين ومُحدَثين، كان أحمد شوقي أرستقراطياً بخلفية تركية، والأتراك هم سادة الحلوى كما نعرفها في شرقنا العربي. اخترع الأتراك الحلوى، وصنعها وطوَّرها الشوام، ونجح في تغليفها وتسويقها اللبنانيون كما هو الحال في أشياء أخرى كثيرة. ولا أستبعد أن يكون أحمد شوقي حَلَوياً أنيقاً، والشاعر المصري الساخر كامل الشناوي كان يقضي ساعات طويلة في (كافتيريا) الشيراتون في القاهرة، ويتجول على المطاعم البلدية في حواري القاهرة، وكان عملاقاً بديناً، ولا بدَّ أن السُّعرات الحرارية كانت متوقدة بنيران (البسبوسة) و(البقلاوة) و(أم علي). لا نعرف عن المزاج الغذائي للمتنبي، ونستطيع أن نخمن أن (جرير) و(الفرزدق) والحُطيئة كانوا يتناولون كثيراً من المخللات والبقول. كانت موائد الأغنياء والأمراء التي كان يُدعى إليها الشعراء مليئة باللذائذ والأطايب؛ فنحن نسمع عن (الفالوذج) مثلاً، ولعل (الفالوذج) كان نوعاً من المهلبية الفارسية. ولكن الشعراء حتى على موائد الطعام اللذيذ كانوا مشغولين بتأليف القصائد ومراجعتها؛ فالدراهم والدنانير وعطايا الضياع والجواري كانت أهم عندهم من حلوى غبية فانية تسمى (الفالوذج).

* نهتم نحن العرب بدواوين الشعراء، ولا نلقي بالاً لمطابخهم، ولن نقدّم على كل حال مؤلّفاً نقدياً مبتكراً عن القاموس الغذائي للشعر العربي ما دامت مجلات محترمة ومؤلفون محترمون في الغرب يتحدثون عن السُّكَّر والزبيب والزبدة المحلاَّة عند شعراء كبار ك(شيلي) و(هومَر) وغيرهما.

* ولكن المقال المذكور إذ يتحدث عن علاقة الحلوى والسُّكَّر بالشعراء كان يتناول على نحوٍ رئيس قضية المبادئ والمثاليات عندما تتداخل وتتضارب مع النَّهم البشري المألوف نحو اللذائذ والأطايب والمتع الحسية؛ فالمقال يثير قضية (السُّكَّر) والاستعمار والعبيد في إنجلترا عند نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر.

* كان الإنجليز يحبُّون السُّكَّر حباً جماً من أجل صنع الحلوى، ولكن من أجل (الشاي) الإنجليزي المقدّس على نحوٍ أكبر؛ فقد كانت الأسرة الإنجليزية تستهلك كيلوين من السكر أسبوعياً وبمعدل متزايد. وشملت عادة تناول الشاي الصالونات الأرستقراطية والعمال والمزارعين على جوانب الطريق، وشكلت الضرائب على السكر المستورد دخلاً مهماً للخزينة الإنجليزية.

* ولكن السكر اللذيذ الذي كان يعشقه الإنجليز، بما فيهم شاعرنا الكبير (شيلي)، كان ملوثاً بعرق العبيد السود وبؤسهم وظروف معيشتهم المزرية في مزارع القصب على سهول جزر الهند الغربية، وكانت مستعمرة إنجليزية. كانت تجارة العبيد قانونية ورائجة تلك الأيام، واحتلت موانئ (ليفربول) و(بريستول) الصدارة في هذه التجارة. ويذكر المقال أن سنة (1787م) وحدها شهدت شحن نحو ثمانية وثلاثين ألف مخلوق بشري من هاتين المدينتين على سُفن إنجليزية يتكدَّس في جوفها العبيد كالسردين، وتم نقلهم إلى المستعمرات الإنجليزية ليزرعوا ويحصدوا ويُنقّوا السكر اللذيذ ليتم ارتشافه مع شاي ما بعد الظهيرة الشهير والمحترم عند الإنجليز.

* ماذا يفعل (شيلي) وإخوانه الشعراء والأدباء والنشطون السياسيون عندما يواجهون هذه الأزمة؟ إنهم يعشقون السكر عشقاً معربداً جارفاً، ولكنهم يرفعون شعار الحرية والعدالة والمساواة وحق الإنسان في الحياة الكريمة. هل يستمرون في لعق المادة البيضاء الساحرة ويهضمون العرق والدم والبؤس الأسود ولا يشعرون بمرارته في أفواههم؟!

* بدأت حركة مقاطعة كبيرة للسكر المستورد من جزر الهند الغربية، ووصلت هذه المقاطعة إلى قصر (بيكنغهام) حيث الملك جورج الثالث وعائلته، وشملت الصوالين المخملية والأرصفة المُتَّسخة، وكان الشاعر الكبير (شيلي) أحد كبار قادتها والداعمين لها.

* كيف تعامل الشاعر (شيلي) مع الحرمان المؤلم من قطع السكر ذائباً تحت اللسان أو مذوَّباً في الفنجان؟ اتجه (شيلي) إلى الشاي الأخضر الذي كان نسبياً أكثر حلاوة على اللسان، وكان يقول: إن العيون الجميلة والأيدي الناعمة التي تقدم له الشاي المُرّ تغنيه عن غياب السكر. تلك هي الحيلة الشهيرة والمبالغة المألوفة عند الشعراء: عيونك أحلى من السكر، وأنفاسك أزكى من العود والعنبر، وكلما نظرت إليَّ نسيت السُّكَّر وأدمنْتُك أكثر. وهكذا الشعراء والذين يتبعونهم مثل المنخل لا يثبت عندهم عهد مع السكر وحتى مع العيون التي هي أحلى من السكر.

* يقول (توماس جيفرسون) صديق الشاعر الكبير (شيلي) إنه ضبط الشاعر يوماً وهو يصنع حلوى معروفة، وبعد أن انتهى من إعدادها بالتحايل على أمور كثيرة لكي تصبح أكثر حلاوة دون إضافة السكر المخلوط بالبؤس البشري تلفّت الشاعر الكبير حوله وأخذ حفنةً ضئيلةً جداً من السكر ونثرها على الحلوى الجاهزة.

* لحظة ضعف بشرية لشاعر حُرّ، إنساني، عظيم.

* ألا نغفر ل(شيلي) شاعر الإنجليز وعاشق السكر الكبير لحظة ضعف مع حفنة ضئيلة تافهة من السكر؟!

* نغفر للسُّكَّر، ونحترم المبادئ، ونضيق بالسياسة، ونحبّ الشعراء.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5853» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد