Al Jazirah NewsPaper Tuesday  13/02/2007 G Issue 12556
الاقتصادية
الثلاثاء 25 محرم 1428   العدد  12556
رغم نجاحنا في خفض تحويلات العمالة الأجنبية إلى 50% خلال الـ15 عاماً الماضية
16 بليون دولار ما زالت تتسرب سنوياً من تحت أيدينا ونجتهد في استقطاب الاستثمارات الأجنبية!!
د. صالح بن سبعان (*)

صندوق النقد العربي أشاد بنا لأننا نجحنا في خفض تحويلات الوافدين إلى (5.4%) بواقع (50%) من الناتج القومي الإجمالي خلال الـ(15) عاماً الماضية، حيث هبطت تحويلات المغتربين العاملين في السعودية من (9.6%) إلى (5.4%) في الفترة من عام (1990م) إلى عام (2005م).

خبر مثل هذا يسعدك ولا شك، إلا أن تفاصيله تدعو إلى التفكير.

فطبقاً لتقارير البنك الدولي للإنشاء والتعمير في واشنطن (وهذا مصدر ثانٍ)، فإن السعودية تعد ثاني أكبر مصدر للتحويلات في العالم بعد الولايات المتحدة.. وتقدر التحويلات الصادرة عنها بنحو (16.2) بليون دولار سنوياً، متجاوزة ما يصدر عن كل من الإمارات ولبنان والكويت وقطر مجتمعة، إذ تصل تحويلاتها إلى نحو (13) بليون دولار سنوياً.

وفي الفترة من (1993 - 2002م) وحدها قامت العمالة الوافدة في المملكة بتحويل نحو (585.4) بليون ريال سعودي، (156.1) بليون دولار، بمعدل (60) بليون ريال (15 بليون دولار) سنوياً.

وكانت إحصاءات رسمية أصدرتها مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) قد كشفت من قبل أن تحويلات العمالة الأجنبية في السعودية بلغت (14.4) بليون ريال (3.8 بلايين دولار) في النصف الأول وحده من عام (2006م)، وهذا المبلغ يساوي نحو (5%) من إجمالي الإيرادات السعودية، ونحو ما يزيد على (2%) تقريباً من إجمالي الناتج المحلي.

هناك من تستهوله هذه الأرقام، فيقترح معالجات قسرية تتناغم مع نظم الدولة نفسها، دع عنك خرقها لاتفاقيات دولية وقعتها المملكة وذلك بدافع الحرص على هذه الأموال التي ينظر إليها كما لو كانت مسروقة ومنهوبة، فالسعودية من أولى الدول العربية والخليجية التي اعتمدت نظام حرية التحويلات منذ عام 1961م، كما أن المادة الثامنة من النظام الأساسي لصندوق النقد الدولي تنص على عدم فرض أية قيود على مدفوعات المعاملات الجارية وتحويلاتها للمواطنين المقيمين في الدول الأعضاء، ويشمل ذلك حرية التحويل للعملة الأجنبية لأرباح الأجانب ومداخيلهم في مقابل خدماتهم واستثماراتهم. ولكن وعلى الرغم من نظامية هذه التحويلات والإقرار بأحقيتها لأصحابها، إلا أنها بالفعل أموال ومبالغ ضخمة تهاجر من عندنا.

وبالتالي، فطالما أن هجرتها مشروعة وقانونية، فإن السؤال المحوري في أذهاننا يجب ألا يكون: كيف نمنعها من الهجرة؟ لأننا لا نملك هذا الحق، وإنما نملكه في مواجهة الأموال الهاربة خلسة من الأبواب اللاشرعية واللاقانونية، فهذه نملك حتى حق مصادرتها بل ومحاسبة من تسول له نفسه فعل ذلك.

أما تلك الأموال الحلال والقانونية المستحقة، فيجب أن نفكر في الطرق التي تجعلها لا ترغب في الهجرة والخروج، وهذا يعني أن نهيئ لها المناخ الجاذب والملائم الذي يغريها بأن تبقى هنا وتنشط وتعمل وتعيد تدوير نفسها في مشروعات وطنية مختلفة الأحجام والإمكانات، وهذا - بلغة اقتصادية - يعني أن نفتح لهذه الأموال نوافذ استثمارية للعاملين الوافدين في الدولة.

ويمكن أن يتم ذلك بعدة طرق، على ألا نكف عن ابتداع وابتكار صيغ لاستيعاب هذه الأموال في إطار الأنشطة الاقتصادية الوطنية، مثل السماح للمقيمين بالتعامل في سوق الأسهم، أو تملك أسهم في الشركات المساهمة، أو استثمار مدخراتهم، أو تشجيعهم على الادخار، وقد أثبتت دراسة أجريت قبل عامين تقريباً على (400) مدير تنفيذي من جنسيات مختلفة عن رغبتهم في استثمار جزء من مداخيلهم في قنوات استثمارية في المملكة، ومما لا شك فيه أن الفائدة إذا ما تم ذلك ستعم الاثنين: اقتصادنا الوطني والوافد المقيم الذي يعمل بالمملكة.

وإلى الآن أعجز عن فهم كيف أننا نتنادى يومياً بل وننشط على مستوى التشريعات، سعياً حثيثاً، ومحموداً أيضاً لجذب رؤوس أموال أجنبية للاستثمار في المملكة، بينما نسمح لأكثر من (16) بليون دولار تتسرب سنوياً من تحت أيدينا؟! هذا بالطبع بالحساب الرسمي، وإلا فإن المتسرب الحقيقي من هذه الأموال أضعاف هذا المبلغ.

ألا يحق، أو يجب علينا أن نفكر في كيفية استثمار هذه البلايين المتزايدة سنوياً قبل أن نجتهد لاستقطاب أخرى من الخارج؟!

على مرمى حجر من ألمانيا هنا، في إيطاليا، تقوم المصارف بلعبة ذكية في محاولة لامتصاص ودائع العمال الأجانب فيها واستقطابها، والمصارف الإيطالية منخرطة هذه الأيام في منافسة محتدمة تستخدم فيها الإعلانات التلفزيونية لتقديم عروض مغرية تتناسب مع احتياجات المهاجرين الأجانب، لإدماجهم في البنية المصرفية، حيث وصلت الحسابات المصرفية للأجانب إلى مليون ونصف مليون حساب مصرفي، وسيتأكد لديك معنى هذا الرقم إذا علمت أن العدد الإجمالي للأجانب في إيطاليا لا يتجاوز الـ(2.7) مليون نسمة.

الخطوة الأولى التي خطتها هذه المصارف كانت في تحديد حجم الأموال التي يحركها الأجانب في إيطاليا، ورصد المبلغ الكلي للتحويلات المصرفية لهم داخل البلد وخارجه، فاتضح لهم أن القيمة الإجمالية لتحويلات الأجانب إلى بلدانهم الأم بلغت (2.94) بليون يورو سنة 2004م، بزيادة (79%) مقارنة بالسنة الأسبق.

ومثلما هو الحال عندنا، فإن هذا المبلغ الذي تم تحويله عن طريق القنوات المصرفية المحلية، لا يمثل الإجمالي الحقيقي والواقعي للتحويلات، فهناك شركات متخصصة أخرى لنقل الأموال المعروف منها، مثل (ويسترن يونيون) و(موني غرام) و(مؤسسة البريد) وغير المعروف، عبر الوسائل الأخرى. وهكذا قدرت وزارة الاقتصاد الإيطالية أن قيمة التحويلات الفعلية تتجاوز هذا الرقم المقدر بستة أضعاف، وقد قدرت (ويسترن يونيون) الناتج الإجمالي للعمالة الأجنبية في البلد (25.78) بليون يورو، يُنفق منها (62%)، بينما يحول مصرفياً منها إلى الخارج (16%)، ويودع منها كمدخرات (22%)؛ يعني (5.67) بليون يورو.

لقد وضع المصرفيون أمامهم هذه الحقائق والأرقام، ومن ثم توصلوا إلى نتيجة حتمية؛ وهي ضرورة إعادة النظر في مجمل خارطة الخدمات المصرفية، ووضع خارطة جديدة لامتصاص هذه السيولة النقدية الكبيرة، وجذب عملاء جدد إلى ساحة النشاط المصرفي. ومن خلال الاستعراضات لكل الخيارات التي وضعتها أمامها متطلبات الخارطة الجديدة توصلت إلى تفعيل نظام القروض التمويلية الصغيرة الذي يعد الآن من أهم برامجها التمويلية الناجحة مع المقيمين الأجانب الآن.. إلا أن هذه المرحلة التي تخوض المصارف الإيطالية غمارها الآن ليست الأولى، فقد سبقتها مرحلة من الارتياب المتبادل بين المصارف والعمال الأجانب دامت لسنوات، اكتفى فيها العمال الأجانب بفتح حسابات جارية أو دفاتر توفير إلى أن أصبحت حركة أموالهم واضحة وفاتحة لشهية المصارف المحلية الاستثمارية.

أكتب هذا ولا أدعو مصارفنا إلى تقليد نظيراتها الإيطالية تقليداً أعمى لتعمل على تطبيق تجربتها في واقعنا، ولكن لنأخذ بالمنهج وطريقة التفكير والعمل.

فهم عندهم من العمالة الأجنبية ما لا يتجاوز (2.7) مليون مهاجر، ونحن عندنا أكثر من (7) ملايين.

إجمالي تحويلات العمالة عندهم (3.9) بلايين يورو سنوياً، بينما تبلغ التحويلات من عندنا إلى الخارج (16.2) بليون دولار.

الأمر الذي يعني أن مصارفنا تتمتع بهامش استثماري أكبر بما يقارن مع مثيلاتها الإيطالية لو أحسنت استقطاب وامتصاص جزء من هذه السيولة النقدية واستثمارها.

مع التأكيد مرة أخرى على ضرورة مراعاة اختلاف واقع العمالة وسوق العمل والمجالات الآمنة والآليات الملائمة في التعامل مع هذا الرصيد من رأس المال.

ففي إيطاليا مثلاً ارتفع عدد الأجانب الذين يتجهون إلى المصارف لشراء منازل أو لطلب تمويل نشاط تجاري، لذا تجد أن المصارف وزعت في العام الماضي نحو (4.85) بلايين يورو كقروض تمويلية للأجانب، حتى وصل عدد من امتلكوا منازل إلى (560) ألفاً منهم، مما أثر إيجاباً في حركة الشراء العقارية في المدن (الإيطالية). وهذا حسب القوانين في المملكة نشاط غير متاح.

إلا أن المجالات كثيرة ومفتوحة، وما هذه الإشارة إلى ما يحدث في القطاع المصرفي في إيطاليا الآن سوى نموذج لتجربة يمكن أن تحفز العاملين في قطاعنا المصرفي للاستفادة منه، مع ضرورة التأكيد مرة أخرى على التأسي بالمنهج وطريقة التفكير، وليس بالتقليد ونقل التجارب كما هي من واقع إلى واقع آخر مختلف.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7692» ثم أرسلها إلى الكود 82244

(*) أكاديمي وكاتب سعودي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد