Al Jazirah NewsPaper Tuesday  20/02/2007 G Issue 12563
مقـالات
الثلاثاء 02 صفر 1428   العدد  12563

(لُبْنَانُكَ).. و(لُبْناني)
أنور عبد المجيد الجبرتي

* أي لبنان الذي تألفه وأيهما الذي تنكره؟ وأيّ لبنان الذي تعرفه، وأيهما الذي تجهله؟ وأين يختفي ويتلاشى لبنان الذي تحبّه وتعشقه، وكيف ولماذا يظهر لبنان الذي تمقته وتخشاه وتحار في شؤونه وتحزن لمآسيه وشجونه؟

* تساءل عن ذلك رجلٌ أحبَّ لبنان وعشقه وهاجر منه إليه ولا يزايد أحدٌ عليه؛ لأنه لبناني أصيل وشاعر مرهف وفيلسوف أدبي رصين:

كان جبران خليل جبران يقول:

لك (لُبنانُك) ولي (لُبْناني)..

لك (لُبنانُك) السياسي بمشكلاته

ولي (لبنان) الطبيعة بجمالها

لك (لُبْنانُك).. بسياساته وصراعاته

ولي (لُبناني) بأحلامه وآماله

فلترض ب(لبنانك) كما تريده.. فإنني قانع ب(لبناني)..

* لكن لا أحد يبدو قانعاً ب(لبنانِه) تاركاً للآخرين لبنانهم الذي يحبونه ويقنعون به، الكل يريد لبنانه ولبنان الآخرين.. ولا يبدو لبنان نفسه قابلاً للتقسيم والتجرئة وحتى (الانفصام) لكي يُعطي شيئا من نفسِهِ لهؤلاء وأشياء منه لأولئك ف(لبنان) الذي نعرفه ونعاصره، رُزمة واحدة تؤخذ كلُّها أو تترك كلُّها وعلى المحبين والعاشقين والمتسائلين أن يتعايشوا مع الأشواق والهلع والحيرة.

* كلُّ الأفراد والمجتمعات فيها السِّرُ والجهر والباطن والظاهر والمخبوء والمعلن والمسكوت عنه والسكوت عليه ولا نزايد على لبنان ولا نستثنيها ولا نضعها على المحك. التناقص ظاهرة بشرية فردية وجمْعيَّة والازدواجية لازمة إنسانية وهذه الحياة الدنيا لا تخلص يها متعة ولا يصفو فيها مشْرب ولا يدوم بها حال.

ولكنني أُجزم بأن الحالة اللبنانية تصدمك أكثر من غيرها في ذلك التضاد من أحوالها ومظاهرها وتقلباتها وعناوينها.

* التناقض والمعارضة والتضاد في الحالة اللبنانية ليست بين سرٍ وجهر أو باطن وظاهر أو مخبوء ومُعلن كلُّ الوجوه اللبنانية المتناقضة سافر ظاهر وكل المواسم اللبنانية المتنازعة معلنة ومقروءة في نشرات أخبار الطقس الإنسانية. كلُّ فرح أو حزن لبناني واضح بالمانشيت العريض و(النُّيون) الساطع، المشهد اللبناني صريح وصادق حتى آخر قطرة من رحيق مختوم أو دم مسفوك.

* لبنان إن شئت هو الجمال والرقة والأناقة والأُنْس، الجبل الشامخ الأنيق المتوج بذؤاباب شجر الأرْز والسهل الناعس اللطيف والبحر الدافئ والنهر الرقراق والزَّجل الشاعر الظريف والأغنية الفيروزية الحالمة المريحة للأعصاب والضيافة الأصيلة التي لا تعكرها حتى الاستفادة التجارية والنظافة والرَّحابة والتَّبولة والكرْز وكل (بابا) غنُّوج، وغير غنُّوج وكل تفاحة على الشجر وفي أسيل الخدود.

* الأناقة العربية في المسكن والملبس والمطعم عنوانها لبناني، يكدح الأتراك والشَّوام والمصريون والعراقيون وغيرهم في اختراع الطَّبخة وتصنيعها وينجح اللبنانيون في هنْدستها وإتقان ديكورها وتغليفها وتسويقها ويفوزون بالاسم وبراءة الاختراع. تجهد نساء العرب في اقتناء الغالي والثمين من الأنسجة والمجوهرات وتنجح اللبنانية في اقتناص أناقة صارخة لافتة للأنظار وبملابس بسيطة متناسقة ملائمة دائماً للساعة والطقس والمناسبة، ولا بأس طبعاً وعلى الإطلاق من الملابس الغالية والمجوهرات الفاحشة الثمن.

* وتدخل بيتاً لبنانياً بسيطاً فيأخذك ذلك الذوق والتنسيق الجميل ، ويقدم لك صاحب المنزل طبقاً من خضراوات معروفة أو فواكه مألوفة ولكنك تدهش للمهرجان الجميل من الألوان والتنضيد البديع للأنواع، فتبدو كأنك تقابل تلك الفواكه والخضراوات للمرة الأولى.

* اللبنانيون يحبون الحياة ويتقنون فن الاستمتاع بها وينفقون عليها كلَّ ما في الجيب وكل ما يمكن أن يأتي به الغيب، وهم يحبون مشاركة الآخرين لهم في هذا الحب للحياة والإنفاق عليها ويزينون لهم ذلك، فالضيافة اللبنانية ليست تصنُّعاً حضارياً ولا تكسُّباً تجارياً، ولكنها طبعٌ ثقافي وهواية جمعية ومزاج شخصي.

* تأسر لبنان كل زائريها الأثرياء ومتوسطو الحال والمثقفون والشعراء، وتحضرني هنا قصائد أحمد شوقي التي قد لا يذكر أكثرنا منها إلا (يا جارة الوادي) ولكن شوقي كان متيماً حقاً، بالوادي كما هو كذلك مع (جارة الوادي).

* أليس هو القائل في مبالغاته أو هياماته:

لُبنانُ وَالخُلدُ اِختِراعُ اللَهِ لَم .. يوسَمَ بِأَزيَنَ مِنهُما مَلَكوتُهُ

هُوَ ذِروَةٌ في الحُسنِ غَيرُ مَرومَةٍ ..  وَذَرا البَراعَةِ وَالحِجى بَيروتُهُ

وَكَأَنَّ أَيّامَ الشَبابِ رُبوعُهُ ..  وَكَأَنَّ أَحلامَ الكِعابِ بُيوتُهُ

وَكَأَنَّ أَثداءَ النَواهِدِ تينُهُ ..  وَكَأَنَّ أَقراطَ الوَلائِدِ توتُهُ

ويقول في (زحلة):

شَرَفاً عَروسَ الأَرزِ كُلُّ خَريدَةٍ  .. تَحتَ السَماءِ مِنَ البِلادِ فِداكِ

رَكَزَ البَيانُ عَلى ذَراكِ لِواءه  .. وَمَشى مُلوكُ الشِعرِ في مَغناكِ

لَم أَنسَ مِن هِبَةِ الزَمانِ عَشِيَّةً  .. سَلَفَت بِظِلِّكِ وَاِنقَضَت بِذَراكِ

* كل القصائد والأغاني وكل ذلك الهوى المكتوم أو العشق المفضوح عند الذين لا يحسنون شعراً، أو غناء أو نثراً هو بعض الهوى للبنان الجميل الناعم الأنيق المضياف المثقف الموسيقى.

* ولكن ماذا عن لبنان الدم المسفوك والعنف الشرس والحروب الأهلية، والاغتيالات والاجتياحات والهذر السياسي والغوغائية الطائفية والفئوية وتهريج القيادات ونفاق السياسيين.. الخ.

* اغتيالات متتابعة على مدى طويل لرؤساء جمهوريات ورؤساء وزارات ورجال دين ووزراء وصحافيين ومفكرين وقادة أحزاب وأبرياء عابرين.. حرْبٌ أهلية ظهرت لنا منها فظائع ومآس، وما لم يظهر لنا منها أفْظع وأعظم دموية ارتهانٌ للخارج ضد المصالح الوطنية، وتغليبٌ للشخصي والطائفي والفئوي. باختصار وجهٌ آخر بشعٌ للبنان لا يستقيم ولا يتسق مع الوجه الجميل اللطيف المحب للحياة يتزين لها.

* ذلك لبنان وهذا لبنان آخر فأيُّ لبنان نصدق وأي لبنان شاهد حقاً؟

* الذين يتفلسفون يقولون إن لبنان يشبه الحياة الدنيا حقيقة، فهو يخفي كلَّ مبكيةٍ وان بدا منه حسن مبتسم، والذين يحبون لبنان ويعشقونه ويغترون بالحسن والجمال فيه سيموتون به كما يموت قتيل الغِيد بالبسمات.

* المتفائلون يجزمون بأن الحبَّ والجمال سينتصران وأن السياسة الجاهلية البغيضة والساسة التافهين سيرحلون عن سماء لبنان وسيعود الربيع الأخضر مختالاً وضاحكاً.

* على الأقل يؤكد لنا جبران أن (دنْدنة) الفلاح على سفوح لبنان أعز لديه من هذر جميع (النُّبلاء) السياسيين وأنها ستحفظ له لبنانه ولبناننا.

* كل إنسان في هذه الحياة الدنيا سينال (لبنان) الذي يستحقه.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS

تبدأ برقم الكاتب«5853» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد