Al Jazirah NewsPaper Wednesday  21/02/2007 G Issue 12564
مقـالات
الاربعاء 3 صفر 1428   العدد  12564
أوراق من ألمانيا
مؤسساتنا لا ينقصها سوى الثقافة الطبية العلاجية
د. صالح بن سبعان(*)

لم أكد أصدق عيني وأنا أراه هاشاً يستقبلني بكل هذه الحفاوة، وببسمته المقتصدة الوقورة المتحفظة التي تحاول أن تخفي حباً تفضحه عينه المشعة فرحاً.

لم أصدق، ولكنه أبي نفسه الذي تفتحت عيناي على الدنيا على وجهه السمح وحضوره المهيب، وبسمته المتحفظة حين يعبر عن الفرح والحب برؤية من يحب. وشتان ما بين أبي الذي ودعته قبل شهر، بعد أن قضى في المستشفى التخصصي بجدة نصف العام، وحالته الصحية تزداد تدهوراً يوماً بعد يوم، وبينه الآن في ألمانيا.

كان - شفاه الله وحفظه - منطفئاً وذاوياً، وهو يغادر التخصصي بطائرة (الإخلاء) متجهاً إلى ألمانيا. والآن أراه أمامي - بحمد الله - وقد استعاد ألقه وتألقه وعافيته وبسمته الطيبة.

لا أدري، لماذا انصرف ذهني فور رؤيته مباشرة إلى (التخصصي)؟ إذ رحت بلا وعي ولا قصد أقارن بين المبنيين؛ هذا الذي يرقد فيه والدي الآن، وذاك الرابض في جدة، ثم أقارن بين الديكورات الداخلية بينهما، فوجدت أن نتيجة المقارنة بين الشكلين والمظهرين الخارجيين كانت لصالح مستشفانا التخصصي.

إذن لماذا حالة والدي على هذا الاختلاف منها هناك؟

(سألت نفسي)!!

وحين رحت - في اليوم الثاني - أسأل وأحاول التعرف على مستوى الكفاءة والتأهيل العلمي بين الأطباء في المستشفى الألماني وطاقم المساعدين والتمريض، اتضح لي أنه لا يكاد يوجد فارق في المستوى الأكاديمي بينهم وبين الأطباء عندنا.

وفيما بعد وصلت إلى نتيجة تفسر لي هذا الفارق الواضح الذي يتمثل في (حالة) والدي المرضية وتطورها وتقلبها ما بين هنا، وهناك في جدة. والنتيجة كانت هي: إن الفارق ثقافي.. هناك خلل، أو سمِّه قصوراً في ثقافتنا الصحية والعلاجية مستشرٍ في مؤسساتنا الطبية. وهذا الخلل، أو هذا القصور يبدو لنا واضحاً في الطريقة، أو في أسلوب التعامل مع والدي ومرضه في الحالين.

فلو دخل التخصصي ولا يشكو سوى من احتباس في البول، فاختار الأطباء أسهل وأقرب إجراء؛ وهو عمل قسطرة (أنبوب في الحالب يتسرب البول عبره إلى زجاجة). ولكن، وبما أن الإهمال واحد من أكبر ملازمات القصور الثقافي الطبي، كان من الطبيعي أن يحدث تلوث في الأنبوب، ويتسرب التلوث بالتالي إلى دم المريض، فأدخل والدي - شفاه الله - العناية المركزة عدة مرات خلال الستة أشهر التي قضاها بالمستشفى بسبب مضاعفات التلوث.

أكثر من ذلك أجريت له فحوصات قالوا إن نتيجتها تثبت إصابة والدي بمرض السكر. ونحن (يا غافل لك الله).

الشيء الغريب أنني ورغم ضحالة حصيلتي الطبية نبهتهم إلى أنهم يجب أن يعالجوا أسباب الاحتباس البولي؛ لأن القسطرة يلجأ إليها الطبيب كإجراء مؤقت، وهي ليست بالعلاج. إلا أنهم ردوا عليَّ بأن الوالد - أطال الله عمره - طاعن في السن!!

ولم أفهم - بيني وبينك - هذه الحجة، إذ - لأول مرة - أسمع أن كبر السن يحول دون العلاج!!

هذه الإجابة إضافة إلى ما آل إليه حال الوالد بعد في المستشفى أدخلني في نفق من الحيرة والعجز؛ لأنك لا تستطيع أن ترى والدك يزوى أمامك هكذا دون أن تفعل شيئاً، فراسلت المستشفى الذي يرقد فيه الوالد الآن مرفقاً مع مكاتباتي تقريراً طبياً من التخصصي، ثم الموافقة.

لا أثقل عليك بالإطالة فور وصوله قاموا بإجراء الفحوصات الطبية الأولية التي أثبتت خطأ نتيجة فحص السكري، وبأن الوالد لا يعاني من هذا المرض، وكان هذا أول الغيث، ولكنك تستطيع أن تسأل: إذا كان مستشفى بحجم التخصصي يعطي شهادة بالإصابة بمرض مثل السكري لخطأ في التحليل، فما الذي يمكن أن يفعله في أمراض حقيقية عند المريض الذي يلجأ إليه؟

وكانت خطوتهم التالية هي نزع هذه الأنابيب، إذ صار التبول طبيعياً وكذا الأكل والشرب.

ألم أقل لك إن الخلل ثقافي، وإنه يكمن في الطريقة التي ينبغي أن يتعامل بها من يعمل في هذا المجال مع المرضى، وأن يتغذى بالشعور بأنه إنما يتعامل مع أشخاص تتوقف حياتهم وصحتهم وأحوال أهلهم ومحبوهم ومعارفهم بعد الله على مدى ما يبذلون من جهد لرعايتهم والاعتناء بهم بكل عطف وحب ورأفة.

ويمكنك أن تلمس الفرق في التعامل مع المرضى واضحاً، وفي اللمسات الإنسانية التي تؤثر إيجابياً في الصحة النفسية للمريض، وتجعله مهيأً لتقبل العلاج والاستجابة له ولكل التوجيهات العلاجية الموضوعة له.

ومما له دلالات عميقة أنني لم ألحظ قط تفرقة بين المرضى في مستوى العناية الطبية العلاجية أو في مستوى التعامل السلوكي، فالكل متساوون فيما يتلقون من العاملين بالمستشفى، حيث تنتفي تماماً الطبقية في مواجهة المرض الذي يساوي بين المرضى، فكله ابتلاء للصبر والاحتساب، لا يفرق الله فيه بين غني وفقير، ولا بين الوجهاء والعامة. فالكل سواسية في الابتلاء، والكل متساوون في حق العناية والرعاية القصوى، والباقي على الله، يعجل بشفاء من يشاء، ويؤجل شفاء من يشاء، وله الحمد في الحالين.

أما والفرحة لا تسعني الآن، وأنا استمد الدفء الذي افتقدته من والدي، وقد عاد يحكي لي ما تجود به ذاكرته من حكايات سالف تاريخنا، ويردد لي ما حكاه له والده طرفاً من ملحمة توحيد المملكة تحت قيادة المؤسس، وشيئاً من الأشعار القديمة، ويتفحص صور أحفاده في وجهي لا يسع لساني عن اللهج بشكر مَنْ وقفوا وقفة الرجال أبناء الرجال من ولاة الأمر معنا في هذه المحنة، وكانوا الظهر والسند كدأبهم، وهم الذين لم يكتفوا بتكفل العلاج والسفر بطائرة الإخلاء، بل ظلوا على اتصال يومي بالوالد منذ سفره وإلى اليوم، متابعة وعناية ورعاية واطمئناناً.

ولا أظن باستطاعتنا رد بعض هذا الفضل على كريم عنايتهم ورعايتهم، سوى مقابلته بمزيد من الحب على الحب، ومزيد من الولاء على الولاء، لهم، ولهذا الوطن الشامخ المعطاء.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS

تبدأ برقم الكاتب«7692» ثم أرسلها إلى الكود 82244

(*) ألمانيا - أكاديمي وكاتب سعودي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد