Al Jazirah NewsPaper Wednesday  14/03/2007 G Issue 12585
مقـالات
الاربعاء 24 صفر 1428   العدد  12585
مطاردة الفساد
د. صالح بن سبعان(*)

بين حين وآخر يأتينا هنا في الوطن ما يُفرح، ويسر الخاطر ويشرح الصدر من أخبار، تبشرنا بأننا على الدرب سائرون في طريقنا إلى تشييد وطن بحجم الحلم الذي نحلم، وما يجعلنا نرفع الرأس فخراً بين الأمم.

وما يؤكد لنا يقيناً بأن مبايعتنا لولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين المفدى بقلوبنا وأرواحنا لم تكن محض حب استقر في قلوبنا فحسب، ولكنها كانت مبايعة عقلانية وواعية عن جدارة واستحقاق، وثقة (فاهمة) بأنه سيقود مركب هذا الوطن الشامخ نحو الشمس والعلياء.

فرحة إثر أخرى

كان في خاطري وأنا أرافق الوالد - شفاه الله - أن أنتهز فرصة للكتابة حول قرار مجلس الوزراء باعتماد مبلغ تسعة مليارات ريال لمشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام لإحداث نقلة نوعية فيه حسبما جاء في الصحف. إذ إن المشروع وبالأهداف التي يسعى لتحقيقها كما أعلنها نائب وزير التربية والتعليم الأمير خالد بن عبدالله المشاري، إنما يترجم ويلخص ما ظللنا نردده ونلح عليه دائماً، بإلغاء التعليم بالتلقين، والاتجاه إلى إشراك الطالب في العملية التعليمية لإكسابه المهارة على التفكير، والأخذ بالمناهج الرقمية لتعزيز جانب التعليم الذاتي، وحسناً فعل المشروع بوضع جدول زمني لهذه النقلة بست سنوات، أحسن من ذلك أنه اشترط لنجاح المشروع ضرورة إعادة تأهيل (400) ألف معلم ومعلمة للتعامل مع النظام الجديد لتحقيق الهدف منه.

إذ لم يضر بالتعليم عندنا أكثر من انشغالنا وتركيزنا على كم مخرجاته، كتوسعنا في تشييد المدارس دون الإعداد اللازم للمعلم وهو الموصل الرئيسي للرسالة التعليمية.

كنت - منتشياً - بهذه الخطوة العملاقة في برنامج الملك الإصلاحي الكبير أزمع الكتابة بتوسع حولها. فإذا بأخبار الوطن تحمل لنا بشرى أخرى لا تقل أهمية عن الأولى التي لم نفق من فرحتها بعد، وتتمثل هذه المرة في قرار مجلس الوزراء الموافقة على الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد التي رفعها سمو وزير الداخلية ومن ثم إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد لمتابعة الإستراتيجية الوطنية ورصد نتائجها وتقويمها ومراقبتها ووضع برامج وآليات تطبيقها.

غابة الفساد الشائكة

والحق أن الحديث عن الفساد باب واسع لا توفيه هذه المساحة حقه. وهو ليس بحديث سعودي خاص - أقول هذا خوفاً من هواة الحديث عن خصوصيتنا -، بقدر ما هو مشكلة عالمية. والمملكة ليست استثناء في هذا بين دول العالم، لكن ما يثير القلق حين يحدث في مجتمع يعتمد القيم الإسلامية كمعايير سلوكية وأخلاقية وهي قيم تدعو إلى حسن الخلق ومخافة الله سراً وعلناً في كل ما نفعله.

وعليه فإن وجودنا بين دول العالم من حيث استشراء الفساد يبدو متناقضاً ومفارقاً لحد الغرابة لما نعلنه صباح مساء عن تطهرية مجتمعنا، علماً بأن تعريف منظمة الشفافية يكتفي برصد الفساد المالي والإداري حسب التعريف الذي يعتمده، وهو استغلال الموقع الحكومي لأغراض شخصية، رغم أن للفساد أشكالاً متعددةً ومتنوعةً.

وحتى في إطار هذا التعريف - رغم محدوديته - فإن للفساد الإداري صوراً عديدةً لا يمكن حصرها في قالب، ولكن يمكن التمثيل لأبرزها مثل الواسطة والرشوة، واستغلال السلطات الوظيفية التي تتجسد ضمن مجالات عدة في الانحراف في العقود الحكومية والمناقصات والأنشطة والأراضي الحكومية والاختلاس وسرقة المال العام، وتجاوز الأنظمة واللوائح وخرقها.

ورغم أنه لا أحد أو جهة تستطيع أن تؤكد الحجم الحقيقي لسائر أنواع الفساد لسريتها وعدم الفصح عنها، بل والتكتم حتى على ما يقع منها في يد الجهات الرقابية، إلا أن سجلات المباحث الإدارية تحفل بقائمة لا يستهان بها من قضايا الفساد الإداري بجميع أنواعه، وتم تخصيص رقم مجاني - أيضاً - للاتصال بالجهاز للإبلاغ عن أي موظف يحاول ابتزاز الآخرين بالرشاوى.

هنا الداء ودواؤه

كلنا يدرك ولا شك بأن ما يقع تحت يدي المباحث الإدارية إنما هو غيض من فيض، وأنه في حجمه يماثل الجزء الظاهر من جبل الجليد، وأنه من حيث النوع يمثل أقل وأبسط أشكال الفساد الإداري، وحسناً فعل قرار إنشاء هيئة مكافحة الفساد حين نص صراحة وبما لا يقبل التأويل، بأن المساءلة ستطال المسؤولين بغض النظر عن مناصبهم، وأنه لا أحد سيكون بمنجاة من المساءلة أياً كان موقعه.

ويجب أن ننتبه إلى أن التركيز عند تطبيق قانون ولوائح الهيئة يجب ألا يقتصر على أشكال الفساد المباشرة، فهناك ما هو أخطر من رشوة موظف لخرق النظام - رغم فداحة الفعل - مثل قضايا المشتريات والمشاريع الحكومية المبالغ في تكلفتها، ويستطيع المرء أن يلمس فارقاً شاسعاً بين ما ترصده موازنات الدولة والمبالغ الهائلة التي ترصدها، وبين ما هو متحقق على أرض الواقع، ولا يستطيع المرء إلا أن يتساءل: لماذا ترتفع مشتريات الحكومة أضعافاً مضاعفةً عن سعرها في السوق؟.

بل ثمة أشكال من الفساد التي تحتاج إلى معالجتها، والتمعن فيها، واكتشافها، ومن ذلك بعض اللوائح التنفيذية التي تصدر من بعض الوزارات والمرافق العامة وتكون متعارضة مع ما هو منصوص عليه في القانون أو النظام التشريعي، فما يفتح أبواباً قد تؤدي للفساد بطريقة مقننة ومشرعنة مواربة أو خلفية.

وإذا كان غياب الرقابة وضعف المحاسبة هو أحد أسباب استشراء الفساد، فإن فرض الرقابة اللصيقة والدقيقة وتفعيل مبدأ المحاسبة الصارمة الرادعة بالطبع ستكون من أهم العوامل التي تساعد على تحقيق حد أعلى من الشفافية وحماية النزاهة. وأظنني ألمحت إلى هذه النقطة أكثر من مرة، وفي أكثر من موقع لأن من استسهلوا الارتشاء واستغلال السلطات الإدارية لتحقيق مصالح شخصية لم يفعلوا ذلك إلا لأنهم كانوا في مأمن من المراقبة والمحاسبة والعقاب. وليس بجديد القول بأن بعض الناس لا يردعهم دين ولا أخلاق عن الفساد والإفساد، ولهذا شرعت القوانين ووضعت العقوبات درءاً لفسادهم وحمايةً للعباد من شرور أنفسهم وأطماعها.

إن أمام مَنْ ستُناط بهم مسؤولية التصدي له في الهيئة مهمة صعبة، ولكنها ستسهل إذا ما تجردوا وتحروا العدل وتسلحوا بالشجاعة والصدق الذي يجعلهم سيفاً مسلطاً على الفساد والمفسدين وبلسماً للوطن والمواطن بتوفيق الله.

مع تحياتي للوطن.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7692» ثم أرسلها إلى الكود 82244

(*) أكاديمي وكاتب سعودي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد