Al Jazirah NewsPaper Monday  26/03/2007 G Issue 12597
مقـالات
الأثنين 07 ربيع الأول 1428   العدد  12597
من الإطفائية إلى الواقعية العقلانية
د.صالح بن سبعان (*)

تبدو الرياض، وفي هذه المرحلة السياسية الدقيقة في حياة العرب والمسلمين، هي المكان الأنسب والأكثر ملاءمة لقمة عربية تحاول وضع خريطة تخرج بها الأمة من هذه المتاهة، التي تضافرت عدة عوامل محلية وأجنبية خارجية لإدخالنا فيها.

والرياض بما بذلته، وتبذله، خاصة في الشهور القليلة الماضية من جهد لجمع الفرقاء ورأب الصدع بين الإخوة، هي (البيت) العربي المؤهل الوحيد، الآن، وفي هذه اللحظة، يجتمع القادة العرب في حوار واضح وصريح وشجاع لمعالجة الأوضاع العربية كافة، ووضع الحلول الملائمة والقاطعة لها، عبر رؤية إستراتيجية موحدة يُتفق عليها، وعلى تنفيذها بقوة وصدق.

وأظنه قد بات واضحاً، أن ما يهدد أمن الأمة العربية ومستقبلها ليس انفجار الوضع الوشيك في لبنان وغرب السودان، ولا في الحرائق العراقية التي تنذر بتمزيقه إرباً، ولا في تعنت العدو الصهيوني ورفضه العنيد للسلام، ولا في المناوشات المميتة في الصومال شرقاً وفي المغرب والجزائر غرباً، بل ولا في نذر الفتنة الشيعية - السنيّة التي أطلت برأسها القبيح بين إيران والدول العربية المختلفة. لأن كل ما ذكرناه من مظاهر الفتنة والاقتتال إنما هو انعكاسات سطحية لانشقاقات أعمق تنخر كيان الجسد العربي والإسلامي، تعمل القوى الخارجية المعادية على استغلالها وتعميقها واللعب على تناقضاتها، بما يؤدي في النهاية إلى تمزيق وتجزئة وتشرذم هذا الجسد من داخله.

لذا فإن اختيار الرياض ل(التضامن) عنواناً لاجتماع القادة العرب يأتي مؤكداً لوعيها بهذه الحقيقة، وفي الصميم. ويؤكد مرة أخرى مدى استثنائية هذه القمة التي ستعمل على طرح رؤية إستراتيجية شاملة لموقف عربي موحد، لا يكتفي - مثل كل مرة - بالاقتصار على وصف مهدئات ومخدرات شفوية وشعاراتية فضفاضة فلا فاعلية واقعية حقيقية وعملية لعلاج أي مشكلة.

والمتوقع أن تكون هذه القمة بداية منهج جديد في أدبيات العمل السياسي العربي المشترك، وفاتحة عهد جديد في أسلوب عمل جامعة الدول العربي، التي كان يغلب على قراراتها الطابع العاطفي الانفعال من ناحية والرؤية التجزيئية الاختزالية من ناحية أخرى.

كان القادة العرب يجتمعون في قممهم وهم تحت ضغط إلحاح مشكلة طارئة معينة، تختلف رؤاهم باختلاف مناهجهم السياسية، منهم من يلامس القضايا ملامسة أيديولوجية صارخة فينادي بمواقف حدية لا يتعدى تأثيرها السطح الغريزي للجماهير ومنهم من ينادي بإعمال العقل ويقترح تفعيل الآليات السياسية كافة وإدارة الصراع بحكمة وحنكة وفق الحقائق الواقعية على الأرض.

وفي الواقع فإن الاختلاف كان في جوهره اختلاف عقليتين إحداهما تكتيكية عاطفية آنية، وأخرى إستراتيجية عقلانية مستقبلية تعمل على المدى البعيد.

وحين تفرض الأولى رؤيتها على القمم العربية، لم تكن السعودية تعمل على إجهاض ما أُجمع عليه، رغم قناعتها بأنه لا ينسجم مع رؤيتها ومنهجها، بل تلتزم بما يفرضه الإجماع من التزامات عليها.

لا تخرج على الإجماع، ولا تحاول فرض رؤيتها على أشقائها..

تناصحهم بالحسنى وتخاطبهم بلغة العقل بكل رفق.

كانت، وظلت منذ تأسيسها تراهن على العقل والواقعية والشفافية في معالجة القضايا العربية، فلم تتاجر وتزايد على شعار تعرف هي قبل غيرها لا واقعيته وعدم جدواه، أو استحالة تحقيقه.. ولم تنادي أو تشجع أو تؤيد الدخول في (مغامرات) لا محسوبة من أجل تحقيقه، فالسياسة هي فن (الممكن) ولا مجال فيها للمعجزات.

وواقع حال الدول والشعوب العربية اليوم وما آلت إليه، يؤكد صحة وسلامة وجدوى المنهج السعودي القائم على الواقعية والعقلانية.

وقد ترسخت هذه القناعة لدى جميع الدول العربية، الشيء الذي يفسر نجاح دورها الإطفائي في كل من لبنان وفلسطين وتهدئة التوتر الإيراني العربي ذي الطابع المذهبي - السياسي.

في كل هذه الأحوال لعبت دور الوسيط - المبادر..

الوسيط الذي يطرح حلاً ويقترح آليات توفيقية، وليس الوسيط الذي يعمل على تهدئة التوتر بالتخدير والتأجيل والتعليق المؤقت.

وسيط يضع الأسس الواضحة للتحاور والتوافق لعلاقة راسخة.

وقد كتبت من قبل، هنا، بأن الوقت قد حان الآن، وفي هذا الظرف الحرج، لأن تنتقل السعودية بهذا المنهج من وظيفته الإطفائية أو دوره الإطفائي إلى أفق أرحب، وإلى خطوة أخرى، نظنها كانت دائماً هي الحلقة المفقودة في كل معادلات العمل السياسي العربي المشترك.

ولتكن قمة التضامن في الرياض سانحة للقادة العرب وللقيادة السعودية لاعتماد هذا المنهج قاعدة لافتتاح مرحلة في العمل السياسي العربي المشترك خاصة والظروف الإقليمية والدولية كلها مهيأة لخطوة عربية مثل هذه.

وتستند هذه النقلة النوعية المنتظرة إلى ركيزتين:

- الركيزة الأولى وتتمثل في تأكيد وترسيخ (التضامن) العربي، ووضع ما اتفق عليه بين كافة الفرقاء، وما هو في حكم الثوابت الوطنية والخطوط التي لا ينبغي تجاوزها بين الفرقاء في العراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال، موضع التنفيذ العاجل، لأن الوقت لا يحتمل التسويق والمراوغة.

والواضح أن تحقيق هذا القدر اللازم من التضامن العربي الداخلي لمواجهة مخططات الآخر - العدو، يحتاج إلى الصدق والتجرد والشجاعة الأخلاقية والتضحية بالمكاسب الذاتية على حساب الأوطان واستقرارها وأمنها، ويحتاج إلى قدر كبير من المسؤولية، وطرح الرؤى الأفكار والنوايا بشفافية على طاولة الحوار المكشوف.

أما المرتكز الثاني فهو، من زاوية معينة يمثل الأول شرطاً له ولنجاحه، ألا وهو وضع خطة عمل سياسية عربية موحدة في مواجهة ما يطرحه الآخر من تحديات وما يصلح أساساً لعمل عربي نهضوي شامل بالضرورة.

وأعتقد أنه لم يعد خافياً أن مبادرة خادم الحرمين الشريفين التي أصبحت مبادرة عربية ارتضاها الجميع تصلح لتكون هذا الأساس الذي يجب أن تتكيف سياسات كل الدول العربية ومواقفها الدولية والإقليمية وفقه، ووفق مقتضياته.

وأن يوظف (التضامن) العربي اصطفافاً حول هذه المبادرة، وأن تتحد وتتوحد الدول العربية متضامنة في مواقفها، منفردة ومجتمعة حولها.

فإن مواجهة العدو الصهيوني ومن يدعمونه سياسياً في المحافل الدولية تقتضي اتفاقاً وإجماعاً والتفافاً حول موقف سياسي عربي موحد لحل القضية العربية والإسلامية الأولى في فلسطين.

فإن في هذا صلابة تهيئ لنا موقع قوة في المفاوضات الدولية والثنائية.

وأعتقد جازماً أن المملكة بهذه الطريقة ستقود العربة العربية في الطريق الصحيح. وإن قمة التضامن في الرياض بإذن الله ستكون مفتتحاً، يجعل العالم يطل على مشهد عربي جديد.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7692» ثم أرسلها إلى الكود 82244

(*)أكاديمي وكاتب سعودي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد