Al Jazirah NewsPaper Tuesday  10/04/2007 G Issue 12612
مقـالات
الثلاثاء 22 ربيع الأول 1428   العدد  12612
(العِبارة) في (العِمارة)
أنور عبدالمجيد الجبرتي

* هناك (العِمارة) و(البناية) وظهرت مؤخراً كلمة (البرج) ربما لتعبر عن عِمارة، أو بناية شاهقة، مُوغلة في السماء وليست هناك معايير واضحة لاعتبار (العمارة) برجاً، فالأمر لا يعدو أن يكون أحياناً، مبالغة من صاحب العقار، في الحديث عن بنايته، وعلى المختصين في (الأمانات) و(البلديات) تحديد الشّروط والمواصفات لتلك المسميات ولا مُشاحة على كل حال، في الأسماء أو النزعة إلى تدليل المباني، وكلُّ مُعجب ببنايته وعمارته وبرجه.

* يقول أصحاب (المنجد في اللغة العربية المعاصرة) إن البناية هي المبنى الكبير متعدد المنازل والطبقات يتألف من شقق للإيجار وأتساءل متحذلقاً عن البنايات التي تحتوي على شقق مخصصة للبيع، وهي منتشرة هذه الأيام ألا تستحق أن تسمَّى بنايات، ويبدو أن أصحاب (المنجد) لمْ يراجعوا (مُنْجِدَهَمْ)، وقد اختلفت عند الناس شروط التعاقد وعلاقات الارتباط.

* ويقول (المنجد) إن (العِمارة) هي البناية الفسيحة، وانها بناية من عشرة طوابق، فهل يعني هذا أن البنايات التي تزيد طوابقها عن عشرة أو تقل لا تستحق لقب (عمارة)؟ ومن أين أتى (المُنْجدُون) بهذا (الكُود) البنائي الغريب الذي قد لا يوافقهم عليه، أصحاب (العمائر)، ومسؤولو البلديات؟

* زحفت (العمارة) إلى مُدننا، منذ الخمسينيات والستينيات من القرن الميلادي الماضي، فاحتلت الفضاء الاجتماعي والاقتصادي، وشكَّلت وجوه المدن ومُنحنياتها وحكت قصة التحول الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، في بلادنا كما فعلت في بلاد كثيرة حولنا.

* هل تؤثر أشكال البناء وانتشار الناس فيه وفيما حوله في اجتماع وثقافة ونفسية البشر؟ أم أن أشكال البناء نفسها، انعكاس للتَّغيرات الثقافية والاجتماعية وتبدُّل العلاقات والأنشطة الاقتصادية؟ نترك ذلك لعلماء الاجتماع وعلماء المِعْمار وأخمن أن الطريق في هذا الارتباط يسير في اتجاهين.

* كان الناس يعيشون في (حارات) و(أزقَّة)، وفي امتداد أفقي تتراص بيوتهم جنباً إلى جنب وتتلاصق أسطحتهم وتكاد تفعل أبوابهم، وكانت حياتهم تُماثلها قُرباً وتلاصقاً وتقاطعاً.. وكانت هناك العائلة الممتدة أو الكبيرة تتعايش في أكنافها أجيال مختلفة من نساء ورجال وأطفال. كان بيت (آل فلان) بيتاً ل(آل فلان) فعلاً، نرى العرائس يُزففْن إلى شباب البيت وبعد حين يقذف البيت إلى الحارة دُفعات متواترة من الأطفال وكنا نرى (الجنائز) تخرج والعزاء يُقام وبيوت الجيران تفتح أبوابها لاستيعاب زحام الأفراح والمآتم والمناسبات الأخرى. وكل بيت له (كبير) يمشي شباب البيت وأطفاله، وراءه عبر الحارة الطويلة، وكان لكل حارة أو حيّ رجل كبير أو رحال - كبار، يضبطون العلاقات ويحلون الخلافات ويفرضون القواعد والأعراف للتعايش الملتصق والبسيط والمزدحم.

حاولت أن اتصور (العمارة) في إطار الحياة الاجتماعية والسلوكية لساكنيها فأفترض أنها مجرد (حارة) أخرى ولكنها رأسية الاتجاه، وقلت إن الفرق لا يعدو أن يكون اختلافاً بين (الأفقي)، و(الرَّأسي). هل تختلف علاقات الناس اعتماداً على كونهم؛ يتجاورون، أفقياً أو رأسياً فيرْتصُّعون هناك جنباً إلى جنب ويركبون هنا طبقاً عن طبق؟

* جاءت (العمارات) الأولى تمشي على استحياء وسكنها في الأغلب، القادمون من دول عربية وغير عربية، ف(العمارة) على كل حال، كانت ترتبط في ذهن الذين كانوا يسافرون من أهلنا، بالقاهرة ودمشق، وبيروت، والمقاولون والبناؤون والمعماريون الذين بنوا أول عماراتنا كانوا إخواناً مصريين أو سوريين، أو لبنانيين فمنهم من بناها وهم أول من سكنها وليس أدل على ذلك من قضية (البلكونة) وتناقضاتها في عماراتنا الأولى وربما حتى في الأخيرة.

* كنا نذهب إلى القاهرة وبيروت فنرى (البلكونة) تحتل مكاناً مهماً في جمال المبنى وميزاته وحياة ساكنيه، عند الأصيل، كنت ترى المصري جالساً في (بلكونته) مع عائلته مرتدياً البيجامة و(الفانيلة) عارية الأكتاف، يرتشف شاي، الغروب، بعد قيلولة مريحة وكنت، تشاهد العائلة اللبنانية مجتمعة في (بلكونتها) تتجاذب الحديث العائلي، وتراقب الحياة في الشارع، وربما تبادلوا الأحاديث مع أصحاب (البلكونات) المقابلة، وربما فعل مثل ذلك العرب الآخرون من المحيط إلى الخليج.

* (البلكونة) كانت تعكس، المساحات الاجتماعية والتقاليد (المرْتاحة)، وهكذا (المعمار) حين يعكس الأعراف السائدة، ويخدم وظائف اجتماعية وثقافية حاكمة. وما زلت أتساءل: ما لنا وللبلكونة؟ وأي شرحٍ يبررها من طقس مناسب أو منظر خلاَّب أو وعاءْ اجتماعي وثقافي؟

* كانت (العمارة) و(بلكوناتها) تعبيراً عن النَّّسخ المتسرع، والشبق الملتهب، وأردنا أن تكون لنا، نهضتنا المعمارية المتطلعة إلى القاهرة وبيروت، فجاءتنا (البلكونات) عرجاء غريبة الشكل واللسان والأوطان.

* تحولت (البلكونة) طبعاً، إلى أركان وزوايا لجمع الأتربة، واستعملها البعض لنشر الغسيل، وأقفلها آخرون بالأخشاب والألمنيوم لتكون امتداداً وتوسعة غير أنيقة أو منتظمة أو اتخذوها مخازن للأشياء القديمة أو العفش الزائد.

* سكن السعوديون العمائر واستوطنوا الشقق وكتموا أجواف (البلكونات) وأحداقها، ولكن معظمهم كانوا من السعوديين الغُرباء الذين قطنوا جدة والرياض والظهران والخبر بعيداً عن تقاليد حاراتهم وعُيون جيرانهم. شهدتهم عمائر (البطحاء) وشوارع الخزان والوزير ثم عمائر الملز اليتيمة، قريباً من جبل (أبومخروق) كانوا في الغالب موظفين و(متسببين) صغاراً، ثم جاء طلاب الجامعة بعد إلغاء السكن الجامعي فوجدوا في العمائر وشققها متّسعاً اجتماعياً مقبولاً يتجمعون فيه مجموعات تتقاسم تكلفة الإيجار والمعيشة وجاور هؤلاء وأولئك جمعاً غرباء آخرين من مجتمعات شتى، ونشأت قصص وسارت حكايات في أوساط هذا المزيج الاجتماعي والثقافي العجيب الذي احتوته تلك (الحارة) الخرسانية الرأسية بكل غربتها وغرابتها، وحضورها المثير، ولا أريد أن أنسى هنا عمارة (البرميل) الشهيرة على تقاطع شارع الجامعة مع شارع المطار القديم، فقد كانت عمارة فاخرة بمقاييس تلك الأيام وسكنها كبار الموظفين ورجال القطاع الخاص، والأطباء والمهنيون الميسورون، وكنا نذهب إليها لنأكل في مطعم (السندباد) المعروف، وندفع الحساب إلى صاحبه (الشامي) العريق الذي يجلس مدخناً أرجيلته تحت (يافطة) مكتوب عليها (طول بالَكْ).وكنا عادة مكرهين على تطويل البال مع فلسفته في إدارة المطعم والتعليق الظريف على زبائنه.

* لهثت التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية خلف (العِمارة) ولحقت بها وربما تجاوزتها ليصبح هذا الكيان الخرساني كائناً مألوفاً ومعروفاً، يستوعب تلك التغيرات ويتعامل معها.

* العائلة الكبيرة الممتدة تناثرت، وجاء ساكن المدينة المتوحد مع عائلته الصغيرة ومهنته الحديثة وذوقه الثقافي والاجتماعي المختلق وظروفه الاقتصادية الحرجة نسبياً، فسكن العمارة واستألف (الشقة) واحتضن كليهما، في اعتيادية مُسترخية، وقبول مُستسلم.

* وضاقت الشقة الصغيرة في (العمارات) الياردة، كثيراً من الأحيان على الشيخ الكبير والعجوز الطاعنة، والضيافة التقليدية فتوترت العلاقات وخبا وهج العُهود، والمواثيق بين الأجيال وابتعدت العلاقات عن دفئها، على الرغم من مواجهة الباب للباب ومشاركة المدخل و(الأسانسير) وأجر الحارس وثمن شاحنة المياه عند حلول الظمأ الموسمي.

* انثرت الحركة وتكرر الانتقال بين العمائر وسادت مزاجية الترحال وتغيير (الجيران)، وتبدَّل الجوار، ولاحت ضغوط، تنادي بتسهيل (بيوت) ملاصقة للأرض، يكمن في عمقها مزاج الاستقرار النفسي، والاجتماعي، وربما الاقتصادي والسياسي، وإذا كان هذا، لن يُعيد عهود (الحارة) القديمة فلعلَّه يقاربها بشكل جديد وظروف مختلفة.

* هناك الكثير من (العبارة) التاريخية والثقافية والاجتماعية في (العِمارة).

*(العمارة) جملة مفيدة، مفصّلة الطوابق، والشقق تحكي أشياء، وتُنبئ عن تحولات ولكن من يسمع ل(خراسانة) مسلّحة، غبية، بكماء؟

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5853» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد