Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/04/2007 G Issue 12621
سماء النجوم
الخميس 02 ربيع الثاني 1428   العدد  12621

المتنبي.. واغراق في مدح الذات
ناصر غريب العنزي/ عرعر

لقد أطلَّت بواكير شعر الحكمة والفخر بالذات في هذه المرحلة، وكانت حكمة نابعة من نفسه التي خبرت الحياة والناس فصاغها صياغة صادفت هوى نفوس الملايين الذين عشقوا شعره، فكأنما يعبر عما في نفوسهم جميعاً، وكانت الحكم الرائعة، والصور الجميلة والمعاني المبتكرة، والتعبير عن الذات من أهم مميزات شعر المتنبي.

فمن أقواله التي يفتخر فيها بذاته قوله:

أمِطْ عنك تشبيهي بما وكأنَّه

فما أحَدُ فوقي، ولا أَحَدُ مثلي

وقوله:

إن اكن مُعجَباً فعُجْبُ عجيبٍ

لم يَجد فوقَ نفسه من مَزيدِ

أنا تِرْبُ الندى وربُّ القوافي

وسِمامُ العِدى وغَيظُ الحسود

أنا في أمة تدارَكه الل

هُ غريبُ كصالح في ثمودِ

ويقول مفتخراً:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاسُ والقلم

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ

فالمتنبي نموذج فذ لظهور الذات المعتدة بنفسها المستوعبة لأمجاد قومها ومثلهم ووجودهم، وليس معنى هذا أنه ظلّ بمنأى عن الظروف العامة المحتشدة بالفساد والتحلُّل والإفساد، ولكنه ينتشل نفسه بسرعة من وهدة هذا المستنقع إذ يقول:

إذا كنت ترضى أن تعيش بذلةٍ

فلا تستعدّنّ الحسام اليمانيا

ولا تستطيلنَّ الرماحَ لفارةٍ

ولا تستجيدنَّ العِتاق المذاكيا

غير أن هذه الذات قد تجمع وتضل ويصيبها الغرور في غمرة الإحساس بالتميُّز والتفوق فها هو يقول:

ما أبعد العيبَ والنقصانَ عن شرفي

أنا الثريا وذان الشيبُ والهرمُ

ويقول مفتخراً معتداً بنفسه متحدثاً عنها:

يقولون لي من أنت؟ في كل بلدةً

وما تبتغي؟ ما أبتغي جلَّ أن يُسمى

فلا عبرت بي ساعةُ لا تُعزُّني

ولا صحبتني مُهجةُ تقبلُُ الظَّلما

ومن بواكير حكمه قوله:

لا تَحْسُنُ الوَفْرةُ حتى تُرى

منشودَةَ الضَّفرينِ يوم القتالِ

وقوله:

عش عزيزاً أو مت وأنت كريم

بين طعن القنا وخفق البنود

فرؤوس الرماح أذهب للغيظ

وأشفى لغل صدر الحسود

فاطلب العز في لظى ودع الذل

ولو كان في جنات الخلود

وقوله:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفن

وقوله:

وكن على حذرٍ للناس تَستُرُه

ولا يغرك منهم ثغرُ مُبتسمِ

غاض الوفاء فما تلقاه في عدةٍ

وأعوذ الصدق في الأخبار والقسمِ

وبعد، فماذا نستدل من هذا الإغراق في مديح الذات وهذه الحكمة المبكرة؟

يبدو لنا أن المتنبي كان يشعر بشيء غريب يختلج في ذاته، يكاد يطير به، لا يعرف التعبير عنه، يقيمه ويقعده، كأنه كان يعتقد أنه خُلق لشيء، وأن أحداً من العالمين لم يُخلق لما خُلق هو له، ولذلك فقد كان هذا التبجح الكبير.

وقد يكون تفسير ذلك على نحو آخر: هو شعوره بنقص ماء ونحن لا ندري عن هذا النقص شيئاً، أهو نقص النسب؟ أم نقص المال؟ أم نقص الأسرة الحنون؟! أم نقص المجتمع الحامي؟ أم نقص من نوع آخر؟ فأراد التعويض عنه، أم أنه مجموع تلك النقائص كلها، ولقد جاء التعويض على هذه الصورة، وقد يكون تفسير هذا شيئاً آخر.

ونرى أن لا عجب من هذا الإغراق في مديح نفسه، ومن هذا التبجح الكبير بنفسه، ومن هذا الغلو في التعاظم.. فتفسيره في عُرف علم النفس سهل يسير، ذلك أن الصغير من الناس، أو الإنسان الذي يشعر بنقص ما، جسمياً، أو مادياً، أو روحياً، أو اجتماعياً أو غير ذلك، يحاول أن يعوض ذلك النقص بشيء ما.. فالأعمى يحاول أن يسبق المبصرين بالعزف على آلة موسيقية، أو النظم بشعر لا يقدر على مثله الآخرون، أو التأليف في موضوعات شتى أو صعبة.. وما بشار بن برد، أو أبو العلاء المعري أو طه حسين إلا مثال أو شاهد على ما نقول.

انظر إلى رجل نبت في منبت وضيع أو فقير.. انظره حين يتسلم منصباً، أو يتقلد رئاسة وراقب تصرفاته.. تجده يعتني بهندامه بشكل كبير، ويريق على جسده شتى أنواع العطور، ويمشي في الأرض مرحاً، وينظر إلى الآخرين بطرف عينه، ويأمر الحاجب أن يفتح له باب مكتبه، ولا يسمح لأحد بالدخول عليه إلا إذا مرَّ على موظف بعد موظف.. ثم يتعمد أن يشعره بحاجته إليه أو التذلل له، أو إطرائه ومدحه، وما إلى ذلك من أمور.

حتى المرأة التي تحس أنها أقل جمالاً من سواها تعوض ذلك بكثرة المساحيق، وتلون الثياب وغلاء ثمنها، أو بالثقافة العالية، أو بحفظ النكتب والتظاهر بخفة الدم والروح المرحة.

أما الرجل الواثق من نفسه، علمياً، أو مادياً، أو اجتماعياً، أو غير ذلك، فلسوف تجده إنساناً عادياً في مأكله ومشربه وملبسه ومعاملته وتصرفه.. بل قد تجد من الدماثة والرقة وحسن المعاملة والسلوك والاستقبال والتوديع ما لا تجده في سواه.. ويعتقد الناس أنه كلما ارتفع الإنسان بعلمه أو بشخصيته تواضع وحسنت معاملته..

والعكس صحيح.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد