Al Jazirah NewsPaper Friday  04/05/2007 G Issue 12636
مقـالات
الجمعة 17 ربيع الثاني 1428   العدد  12636
الملك عبدالله.. نموذج مختلف
د.صالح بن ناصر الشويرخ

يؤكد المتخصصون في علم السياسة أن إجادة فن الخطبة شرط أساسي لنجاح الزعيم السياسي، وتبعاً لذلك يخضع القادة السياسيون وخاصة في الغرب للتدرب على فنون الخطابة المختلفة وكل أساليب التأثير والإقناع واستمالة قلوب الناس ولا يخلو كل ذلك من التدريب على فنون الخداع والتمويه والمبالغة والتهويل، والكذب والتزييف والتلاعب بمشاعر الجماهير أحياناً، حتى إن الغربيين دائماً ما يرددون المقولة التالية: إذا كنت تريد أن تصبح سياسياً يجب أن تجيد فن الكذب. لكن ماذا يريد الزعماء من كل ذلك؟ ما الهدف الذي يسعون إليه عندما يقضون وقتاً طويلاً في التدرب على تلك المهارات والإستراتيجيات، وعندما يخصصون أوقاتا طويلة للوقوف أمام الجماهير ليخطبوا فيهم؟

قد لا تكون الإجابة عن هذا السؤال عسيرة، فالهدف الأساسي من كل هذا هو كسب قلوب الناس والتأثير فيهم، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نجح الزعماء السياسيون في تحقيق هذا الهدف من خلال خطبهم. لا يختلف اثنان على أن هدف كل زعيم هو التأثير في الناس، لكن الوسيلة قد لا تكون الخطبة التقليدية التي ينشغل الزعماء في التدرب على مهاراتها وإستراتيجياتها، وينسون المهمة التي يجب أن ينشغلوا بها وهي خدمة الناس.

ليس هدفي في هذا المقال الجدال حول أهمية الخطبة السياسية، لكنني أعتقد أن الخلاف سيكون في خصائص الخطبة ومدى تأثيرها، وعليه أرى أن يعيد المتخصصون في علم السياسة حساباتهم حول ما يجب أن تتصف به الخطبة السياسية، وأقصد بها الخطبة الموجهة للمواطنين. إن أول خاصية في الخطبة السياسية الناجحة في رأيي مرتبطة بالخطبة نفسها، فالخطبة ينبغي أن تشتمل على بعض الصفات والمميزات حتى تؤدي وظيفتها في التأثير في المتلقين، وحتى تكون الخطبة مؤثرة ينبغي أن تكون عفوية تلقائية بسيطة بعيدة عن التكلف والتأنق خالية من المحسنات اللفظية والمعنوية، يستخدم صاحبها اللغة التي يفهمها الناس، ويستعمل المصطلحات التي يدركونها، ويتناول القضايا التي يتفاعلون معها.

أما الخاصية الثانية وهي الأهم فهي مرتبطة بصاحب الخطبة نفسه، إن كثيراً ممن يتحدثون عن الخطابة السياسية يركزون على محتوى الخطبة وخصائصها وينسون صاحب الخبطة نفسه، فالخطيب في اعتقادي هو العامل الأهم في الخطبة، فبعض الخطباء يلقى قبولاً وتفاعلاً من الناس حتى وإن كانت خطبته خالية من جميع الخصائص التي يسطرها أهل الاختصاص. حتى تكون الخطبة مؤثرة ينبغي أن يكون صاحبها صادقاً في مشاعره وأحاسيسه، بعيداً عن التدليس والكذب والخداع والتمويه، وهذا لن يظهر في خطبته، بل سوف يتضح من أفعاله وقراراته وإنجازاته.

فالخطبة مهما بلغت قوتها لا تكفي لنجاح القائد ولا تضمن له كسب قلوب العامة. وأتصور أن الناس لا ينظرون إلى الخطبة السياسية بمعزل عن قائلها، حيث يجري الناس عادة وحتى وإن كان ذلك بصورة بسيطة لا شعورية - مقارنة بين ما يرد في الخطبة وشخصية صاحبها.

أجد هاتين الخاصيتين في الملك عبدالله بن عبدالعزيز، فالكلمات التي يلقيها -حفظه الله- لا يمكن أن يطلق عليها خطب سياسية بمفهومها التقليدي، تلك الخطب المشحونة بالمبالغات والوعود الكاذبة، بل هي نوع من الحديث العفوي الموجه من الأب لأبنائه مدفوعة ومغلفة بالصدق وهدفها الإصلاح، ويمكن أن نطلق عليها خطبا أبوية. فكلمات الملك عبدالله بسيطة مباشرة واضحة خالية من كل ما تحويه خطب السياسيين، لكنها في نهاية المطاف مؤثرة، وهو الهدف الذي يسعى إليه كل الخطباء. إن كاتب هذه السطور رجل أكاديمي من الدرجة الأولى، وقد لا يؤثر فيّ إلا خطبة محبوكة ولا أقبل إلا كلمة مليئة بالعبارات والجمل المسكوكة المليئة بأدوات الربط المؤثرة واستعمال المجاز والاستعارات والكنايات البليغة، رغم كل ذلك فإن أي كلمة يلقيها الملك عبدالله تؤثر فيّ تاثيراً كبيراً رغم خلوها من كثير من الصفات التي ذكرتها. وقد استطلعت آراء مجموعة من الأصدقاء والأقارب والزملاء حول هذه المسألة ووجدت أن السواد الأعظم منهم يشاركونني نفس الإحساس. لكن ما السر الذي يجعل الناس يتأثرون بالكلمات التي يلقيها الملك عبدالله؟ إن ما يميز الملك عبدالله ليس الخطب الرنانة والوعود الفضفاضة والخبث والمكر السياسي وفنون المراوغة التي يجيدها كثير من الزعماء السياسيين، بل إن ما يميزه ثلاث صفات: الوضوح والصدق والقيم التي يحملها ويؤمن بها ويسعى إلى تحقيقها بالعمل والقرارات لا بالخطب والوعود. إن الملك عبدالله ليس سياسياً عادياً وليس زعيماً تقليدياً، بل هو إنسان يحمل قيماً ومبادئ تظهر في كلماته التي يوجهها لمواطنيه على نحو بسيط وواضح غير متكلف، لا يقول إنه يحب شيئاً وهو في الواقع يكرهه، ولا يقول أنه سيفعل شيئاً وهو لن يفعله أو يعرف أن الظروف لا تسمح به. وعليه نلاحظ أن أفعال الملك عبدالله وقراراته منسجمة مع خطبه تسر في نفس الاتجاه.

لم يعد الناس في تصوري بحاجة إلى زعيم مفوه وخطيب يقف على المنابر يخطب فيهم ويسترسل في الكلام ويستعرض قدراته اللغوية، خطيب يبالغ في إخراج الحروف من مخارجها ويتأنق في اختيار الكلمات ويتفنن في تحريك يديه وهز رأسه ورفع حاجبيه، بل هم بحاجة إلى زعيم صادق. ليس الناس بحاجة إلى مزيد من الخطباء بقدر حاجتهم إلى مزيد من الصادقين. ولذلك أرى أن على السياسيين أن يتدربوا على ممارسة الصدق بدلاً من التدرب على فنون الخطابة المختلفة، رغم أنني لا أعرف بالضبط كيف يمكن أن يتدرب الإنسان على الصدق!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد