Al Jazirah NewsPaper Wednesday  16/05/2007 G Issue 12647
مقـالات
الاربعاء 29 ربيع الثاني 1428   العدد  12647
بعد قرن من التوحيد
العصبية القبلية في معادلة الدولة
د. صالح بن سبعان*

يبدو ملائماً للغاية السؤال حول توقيت صدور (العصبية القبلية من المنظور الإسلامي) في هذا الوقت تحديداً؛ وما يدعو إلى التساؤل أن الدكتور خالد الجريسي أوضح في مقدمته أن الغيرة (على مجتمعاتنا الإسلامية التي أفرز التعصب القبلي في بعضها كثيراً من الأمراض والعلل من فرقة وتنافر وعنوسة رغبةً منه في إصلاح الزلل ولمِّ الشمل ودرء الفتنة قدر الطاقة، كانت هي الدوافع التي دفعته لكتابة مؤلفه هذا). أي أنه لم يكتبه تحت ضغط وقائع يومية أصبحت هاجساً مؤرقاً لكل مراقب وحادب على مصلحة هذا الوطن تحديداً إلا أن الكتاب يجيء في موعده تماماً، متصدياً لظواهر أخذت تطفو على سطح حياتنا ونطالع مستجداتها وتداعياتها في الصحف يومياً.

فقبل فترة تصدى الكاتب الفاضل سليمان الفليح في هذه الصحيفة لظاهرة تمدد وانتشار الحس القبلي وتعميق الانتماء القبلي بصورة صار ينافس فيها الشعور بالانتماء الوطني، وأحياناً يكون بديلاً عنه.

وقد حذر من الانحراف بظاهرتي (مزايين) الإبل للقبائل والقنوات الفضائية المخصصة للشعر الشعبي، إذ صارتا من أقوى وسائل تعميق القبلية الضيقة على حساب المواطنة الشاملة. حيث دأب بعض الشباب على إرسال (مسجات) على هذه القنوات يثيرون من خلالها النعرات القبلية ويزايدون على غيرهم من أبناء القبائل الأخرى، بل يتلفظون بألفاظ نابية تحط من قيمة الآخرين.

وقد تنبه من قبل الدكتور عبد الله الغذامي إلى هذه الردة القبلية وهذا الارتداد القبلي في (حكاية الحداثة)، حيث أشار إلى أن هناك عودة قوية (لنظام التآزر القبلي) بعد أن ضعف دور القبيلة في المدن والمؤسسات وعاد الحس القبلي برمزية عالية، مضادة لكل تغيير حداثي وحضاري. (145 حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية).

والغذامي والفليح ليسا وحدهما من حاول قرع الأجراس أو صافرات الإنذار محذراً من هذا التشقق والتصدع الذي أخذ يتمدد وينتشر مهدداً النسيج الاجتماعي، بل يهدد كيان الدولة كلها بتصدعه، فكثيرون فيما أعلم كتبوا عن هذا.

إلا أن عدم التصدي بالقدر الكافي والملائم جعلها تتخذ مناحي أخطر. وما قصة الزوجة التي حكم بتطليقها من زوجها إلا واحدة من هذه التجليات لمخاطر ومساوئ هذه الظاهرة، لأن الحكم في هذه القضية انتصر للمنطق القبلي الذي جاء الإسلام لمحوه وإزالته، وتثبيت الرابطة الإسلامية محله.

والواقعة في مجملها إنما تؤكد سيطرة المنطق القبلي وغلبته على ما عداه، ولم يضف حكم القضاء سوى تأكيد سيادة المبدأ القبلي في مجتمعاتنا، رغم ما بذله مؤسس الدولة وولاة الأمر بعده من جهود لترسيخ رابطتي الدين والمواطنة بشتى الطرق ومن خلال العديد من القرارات والسياسات والقوانين.

ومن هنا يكتسب كتاب الدكتور خالد الجريسي أهميته في هذا الوقت تحديداً، وفي ظل الارتداد القبلي الذي يشهده مجتمعنا، وهو بهذه المثابة يعتبر رافداً مهماً وقيماً من التصدي لهذه الظاهرة، علنا نتدارك تبعات هذا التوجه القبلي الذي يجافي توجهنا الديني ويناقضه.

وإذا كنا نتحدث اليوم ونكثر الحديث عن قفزة حضارية أخرى تتهيأ لها المملكة في سلسلة قفزاتها الحضارية التي بدأت في حياة الملك عبد العزيز - رحمه الله - التي دشنها بتوحيد كيانات المملكة المتناثرة وتأسيس الدولة السعودية الحديثة، وسار في تحديثها وتطويرها أبناؤه من بعده ملك إثر ملك، فإن من أول اشتراطات الدولة المتماسكة القوية والمستقرة هو توحيد الانتماء، بحيث يكون الانتماء للوطن هو الشرط الأول الذي لا يعلوه شرط، ثم تأتي بعده الشروط الأخرى، والتي تختصر في بذل كل ما بوسع أي مواطن بذله من جهد وفكر وعمل للارتقاء بهذا الوطن خاصة ونحن نشهد اليوم كيف يمكن أن تتمزق الأوطان ويتقاتل أبناؤها تحت اللافتات المذهبية والطائفية والعرقية المسيَّسة وتكاد تذهب ريحها.

لذا فإن هذه النعرات القبلية التي بدأت تطل برأسها بين البعض يجب أن يتم التصدي لها بالعقل والمنطق ومن قبل بالرجوع إلى تعاليم الإسلام.

ولسنا في حاجة إلى مزيد فتن قبلية قد تتطور وتتكاثر، ويصعب السيطرة عليها. ولنأخذ حذرنا جيداً، فقد اجتاحت هذه النعرات والعصبيات القبلية وغزت حتى المؤسسات، متجاوزةً التراشق والتهاتر اللفظي.

وقد استعرض المؤلف تفاصيل هذه القيم السلوكية العرقية من خلال نموذجين اتخذ منهما المجتمع اليمني والمجتمع النجدي مثالين، وقد فعل خيراً حين أخضع هذه الظاهرة للاختبار على ضوء الإسلام عقيدةً وشرعاً، ووضعها في ميزانه فكشف مدى تناقضاها مع ما أنزل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومدى مفارقتها لكل ما أرسى النبي صلى الله عليه وسلم من قيم أخلاقية. بل كشف أنها - أي العصبية القبلية - ارتداد إلى جاهلية كان الناس متفرقين فوحدهم الإسلام.

والواقع - قديماً وحديثاً - أن النزعة القبلية هي ارتداد إلى حالة الفوضى، وعودة بالمجتمعات إلى مرحلة ما قبل تكوّن الأمة والدولة، وأن انتشارها في دولة قائمة، وفي أمة متوحدة، إنما يهدد كيان الدولة بالتمزق ويهدد كيان الأمة بالتشتت.

وإذا كان هذا يبدو صحيحاً في حال المجتمعات البدائية التي يشيع بين مجموعاتها السلب والغزو والاسترقاق، فإنه في ظل وجود دولة تضم مختلف هذه المجموعات وتتكفل بحماية وأمن واستقرار كل المجموعات وتطبق قوانينها على الكل، وتعمل على تنمية كل المناطق التي داخل حدودها ومسؤولياتها، وتوفر فرص العيش الكريم والعدل والمساواة، فإن الانتماء القبلي يصبح حينئذٍ عامل إعاقة لكيان الدولة، ومهدداً لاستقرار ووحدة وأمن مواطنيها، لذا وجب تسخير نظم وقوانين الدولة لتقليص نفوذه لأدنى حدوده ليستشعر كل مواطن بأن الانتماء والولاء يجب أن يكونا للوطن.

وإذا كانت ثمة ملاحظة على الكتاب، غير الإشادة بجهد مؤلفه، فهي أنه أغفل معالجة مسألة مهمة، وهي تحليل بنية المجتمع القبلي، لأن هذا التحليل هو الذي سيقود خطواتنا في مراحله التحليلية التالية لنعرف ما العوامل التي ساعدت هذا الحس القبلي على النمو والازدهار في ظل دولة مستقرة ومتماسكة منذ أن وحدها الملك عبد العزيز، وما الذي ساعد على عودته إلى الظهور بعد تجاوزه وتوحيد جميع مكوناته في كيان الدولة الأكبر والأوسع؟

السؤالان: كيف ولماذا؟ يغيبان عن هذا الكتاب تماماً، فهما يقعان في محيط أو فضاء (اللا مفكر) فيه، مما يصنف الكتاب في خانة الأدبيات الدعوية. لذا فهو من هذه الزاوية وفي هذه الحدود يعتبر إضافة لا غنى عنها في المكتبة الدعوية.

(*)أكاديمي وكاتب سعودي

dr-binsabaan@hotmail

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7692 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد