Al Jazirah NewsPaper Sunday  25/11/2007 G Issue 12841
وَرّاق الجزيرة
الأحد 15 ذو القعدة 1428   العدد  12841

ذو الرمة شاعر (الوصف والصمان)
عاش ومات بالصمان ودُفن في رمال حزوى

 

تحقيق أعدّه - سعد بن عبد العزيز الشبانات

ارتبطت صحراء الصمان مع شخصية ذي الرمة، لكثرة ما استشهد هذا الشاعر بمعالم الصمان الجغرافية، فيكاد لا يقول قصيدة إلاّ ويشرك الصمان بها، ويذكر موقعاً فيها وقد رصدت له ما يقارب 30 شاهداً شعرياً لرملة (حزوى) بالصمان وحدها.

وقال الكثير في مواقع متفرقة بالصمان حتى أصبح شعره كالخارطة الجغرافية، فهو يتحدث بشعره عن واقع حياته ويصف بيئته والأحداث التي يعايشها من حروب وغيرها، وكأي شاعر يتباهى بمفاخر قومه، فقد كان انتماؤه قوياً بأرضه وقبيلته، أو التغزُّل بمحبوبته (مي)، وهو أحد العشاق العرب المشهورين قال عنه الأصمعي:

(ما أعلم أحداً من العشاق الحضريين وغيرهم شكا حباً أحسن من شكوى ذي الرمة مع عفةٍ وعقلٍ رصين).

قال حماد الراوية: (قدم علينا ذو الرمة في الكوفة فلم أر أفصح ولا أعلم بغريب منه). وقد أتى شعره كالحديقة الجامعة وصف فيها البيئة التي عاش فيها من الحيوانات البرية، والطيور والنباتات والتضاريس الطبيعية للأرض.

وقد تغنى هذا الشاعر البدوي برمال وجبال ودحال الصمان، وحفظ لنا شعره أسماء مواقع كثيرة بالصمان أكثرها أندرس ومنها ما زال يحمل مسماه إلى الآن. وقد لقبته (بشاعر الصمان) لكثرة ما جمعت من شعره لشواهد جغرافية كثيرة لمواضع بالصمان، وهي بلاده وبلاد قبيلته (تميم) العربية العدنانية واسمه:

غيلان بن عقبة بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ملكان بن عدي بن عبد مناة بن أد طابخة بن إلياس بن مضر، ويكنى بأبي الحارث، وبذي الرمة.

وعن سبب تلقيبه بذي الرمة، يقال إنه كانت على كتفه رمة: وهي قطعة من حبل.

وقد دخل بيت خرقاء العامرية يريد أن يشرب الماء، ومدّت له خرقاء الماء وقالت له:

اشرب يا ذا الرمة فلقِّب بذلك.

(مي) محبوبة ذي الرمة

وخرقاء هذه هي التي أصبحت محبوبته وهو الذي لقّبها ب(مي).

وقيل عن أوصاف ذي الرمة انه مدوّر الوجه حسن الشعرة جعدها أقنى أنزع خفيف العارضين أكحل حسن الضحك مفوهاً إذا كلمك، أبلغ الناس يضع لسانه حيث يشاء.

وسوف نستعرض بعضاً من مناقب شاعرنا ومهمة البحث عن قبره، والكلام المغلوط الذي لحق بسيرة هذا الشاعر النجدي، حيث نسبت بعض الروايات أنه مات بأصفهان!

ولم يكن شاعرنا الفحل منطوياً على حياته بالصحراء بل اتصل كسائر فحول الشعراء بالملوك ومدحهم ليعطوه من المال ما يساعده في أمور حياته ويتفرغ للشعر وبدع الأمثال وكان يتردد على الكوفة والبصرة ودمشق.

وقد اشتهر بقوة الفطنة ولم يماثله أحد من الشعراء الذين عاصرهم في جزالة ودقة التشبيه، بل أصبح الشعراء من بعده يأخذون عنه التشبيه.

هو أول من شبّه قطع الرمال بأعجاز النساء عند قوله:

ورمل كأوراك العذارى قطعته

إذا ألبسته المظلمات الحنادس

وعندما سمع عبد الملك بن مروان قصيدته التي مطلعها:

ما بالُ عَينِكَ مِنها الماءُ يَنسَكِبُ

كَأَنَّهُ مِن كُلى مَفرِيَّة سَرِبُ

قال له: لو أنها قيلت في الجاهلية لسجدت لها العرب.

قال عنه الأصمعي:

(كان ذو الرمة أشعر الناس إذا شبه ولم يكن بالملفق، حدثني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: كان لذي الرمة حظ في حسن التشبيه لم يكن لأحد من الإسلاميين، وكان علماؤنا يقولون: أحسن الجاهلية تشبيهاً امرؤ القيس وأحسن أهل الإسلام تشبيهاً ذو الرمة).

قال أبو عمرو بن العلاء: فتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمة.

قال الشافعي - رحمه الله - ليس يقدم أهل البادية على شعر ذي الرمة أحداً.

ومن فحول الشعراء الذين عاصرهم ذو الرمة جرير والفرزدق وكان أهل البادية يعجبهم شعره لقربه من بيئتهم.

وقيل عن الشعر: جاهلي، وإسلامي، ومولد

أما الجاهلي: امرؤ ألقيس، والإسلامي: ذو الرمة، والمولد: ابن المعتز.

توفي ذو الرمة في خلافة هشام بن عبد الملك وله أربعون سنة.

قبر ذي الرمة

تؤكد لنا الروايات التي نقلت لنا شعر وحياة ذي الرمة انه احتضر للوفاة بالدهناء بسبب مرض كان يعاني منه وكان يغمى عليه ويفيق ثم يسأل مرافقيه أين موقعهم فيخبرونه أنهم بالدهناء، وعندما حس بدنو أجله طلب منهم أن يدفنوه في رمال حزوى، فأنكر عليه مرافقوه كيف يدفنوه بالرمال والرمال كما هو معروف تحركها هبائب الهواء وقد ينهار القبر وينكشف، ولكنه أصر على دفنه في رمال حزوى التي يحبها وقد ذكرها كثيرا في شعره، كما أوصاهم أن يبطن قبره بأغصان الأشجار و(المد) وهو الطين اليابس.

ويتضح أن وقت وفاته يوافق موسم الأمطار حيث غسلوه حسب الروايات، ثم حملوه إلى قبره مباشرة، حيث يوجد تحت أنف رمال حزوى من جهة الشمال روضة بها ملزم للماء تسمى (خسيفة) وحسب ما ذكر لي بعض من أهل بادية تلك المناطق أنها كانت غابة من أشجار السدر والعوسج.

عناق ذي الرمة منارة من الصخور على رمال حزوى

رمال حزوى ليست متصلة بالدهناء إلا أنها غير بعيد منها ولون رمالها ابيض يختلف عن لون رمال الدهناء الحمراء لذا تسمى عروق حزوى فرنداد مفردها فرند، وهي كلمة دخيلة على العربية يقصد بها بريق السيف وكذلك من أسماء اللون الأبيض وربما سميت هذه الرمال بفرنداد من لونها الأبيض.

وتقع رمال حزوى شمال شرق مدينة الرياض بـ250 كيلاً، شمال مدينة رماح ويربط بين رماح و البلدان الناشئة بالصمان خط إسفلتي يمر ببلدة شوية وبلدة حزوى (العمانية) ورمل حزوى يحف بالبلدتين.

قال الأزهري:

(رأيتُ بالدّهْناءِ شبه مَنارةٍ عاديّةٍ مبْنيّةٍ بالحِجارَة وكان القومُ الذين أنا معَهم يُسمّونَها عَناقَ ذِي الرُّمّة).

في كلام الأزهري السابق انه شاهد منارة مبنية بالحجارة تسمى عناق ذي الرمة فوق الرمال وهي التي بنيت على قبره كالنصائب وبين مشاهدة الأزهري للقبر ووفاة ذي الرمة قرابة 300 سنة وربما كانت النصائب قائمة ثم انهارت لتحرك جزيئات الرمل من تحتها ثم بنيت مرة أخرى كالمنارة للمحافظة على حرمة القبر.

وكنت دائم التجوال في تلك المنطقة وكنت اسأل دائما عن تلك المنارة ولا أجد الجواب، وفي أحد زياراتي لتلك المنطقة. وكان يرافقني الأستاذ علي بن عبد المحسن الحماد وكان تواقاً لمعرفة موقع عناق ذي الرمة وهل هي ما زالت موجودة وأين هي!

ويبقى السؤال قائما إلى أن زرت ذات مرة الشيخ فراج بن شمروخ العماني السبيعي رئيس مركز بلدة العمانية (حزوى) وهو خبير بتلك الجهات وأخبرته عن أوصاف قبر ذي الرمة وانه يقع في قمة مرتفعة من رمال حزوى وله منارة مبنية بالحجارة.

فقال: لا أعرف مكان بهذه الصفة ولكن هناك في قمة عرق (حزوى) صخور كبيرة الحجم منذ أن عرفت الحياة وهي موجودة هناك ونستغرب من أتى بها إلى قمة رمال حزوى، وما هي الوسيلة التي حملت بها الصخور وما الفائدة منها وفي أي عصر جلبت؟

أعطانا كلام الشيخ فراج أملاً في معرفة موقع قبر ذي الرمة وكان يرافقني في تلك الرحلة الأستاذ علي بن عبد المحسن الحماد وكان شديد الحماس لمعرفة موقع قبر الشاعر العربي الذي ما زال شعره ينبض علما وفصاحة رغم ما مضى عليه من دهر وهو القائل في رمال حزوى:

إِذا ما بَدَت حُزوى وَأَعرَضَ حارِكٌ

مِنَ الرَملِ تَمشي حولَهُ العِينُ أَعفَرُ

وكان يحضر معنا في المجلس السيد سلطان، أحد أبناء الشيخ فراج ورغب في مرافقتنا للوقوف على الصخور التي ذكرها والده وهو يعرفها، وذهبنا سوياً وصعدنا بسيارتنا إلى أعلى قمة رمال حزوى، وشاهدنا الصخور وهي مبعثرة والكثير منها مدفون تحت الرمال وتخيلنا كيف كانت الصخور مبنية كالمنارة ترى من بعد وعرفنا أن ضعف القاعدة الأرضية هي التي سببت انهيار البنيان الذي مضى عليه أكثر من ألف عام.

غسل جنازة ذي الرمة

في خبراء خسيفة

ويقع القبر في أعلى قمة من رمال حزوى مطل على خبراء (خسيفة) التي غسلوه وصلوا عليه فيها ثم حملوه إلى قبره الذي حفروه في الرمال وبطنوه بأغصان الأشجار والمدر الطين اليابس(اللبن) حسب وصيته.

وفي رواية عن عبيد الله بن محمد اليزيدي عن وفاة ذي الرمة قال:

(لما احتضر ذو الرمة قال: إني لست ممن يدفن في الغموض والوهاد.

قالوا: فكيف نصنع بك ونحن في رمال الدهناء.

قال: فأين أنتم من كثبان حزوى؟

- وهما رملتان مشرفتان على ما حولهما من الرمال -

قالوا: فكيف نحفر لك في الرمل وهو هائل.

قال: فأين الشجر والمدر والأعواد قال: فصلينا عليه في بطن الماء ثم حملنا له الشجر والمدر على الكباش وهي أقوى على الصعود في الرمل من الإبل.

- المدر هي: قطع الطين اليابس - فجعلوا قبره هناك وزبروه بذلك الشجر والمدر ودلوه في قبره فأنت إذا عرفت موضع قبره رأيته قبل أن تدخل الدهناء وأنت بالدو على مسيرة ثلاث).

وفي رواية لمنتجع بن نبهان قال: (كنت مع ذي الرمة حين حضرته الوفاة، فلما أحس بالموت قال لي:

يا منتجع إن مثلي لا يدفن في غموض من الأرض ولا في بطون الأودية، فإذا أنا مت فادفني برأس فرندادين فلما مات جئنا بماء وسدر وتوقلنا الرملة فحفرنا له حفرة ودفناه فهناك قبره إذا ظعنت في الدهناء برأس فريدادين).

ومن الأغلاط التي قيلت عن مكان وفاة ذي الرمة ما ورد في كتاب (سير أعلام النبلاء) (ج 5 - ص 267) حين قال: (مات ذو الرمة بأصبهان كهلاً سنة سبع عشرة ومئة).!

وهذا غير صحيح، فقد مات في بادية الصمان وكانت وفاته سنة سبع عشرة ومائة، وتوفي ذو الرمة في خلافة هشام بن عبد الملك وله أربعون سنة رحمه الله تعالى، ولما حضرته الوفاة قال: أنا ابن نصف الهرم، أنا ابن أربعين سنة، وأنشد:

يا قابض الروح عن نفسي إذا احتضرت

وغافر الذنب زحزحني عن النار

وفي رواية عن عيسى بن عمر قال:

كان ذو الرمة ينشد الشعر فإذا فرغ قال: والله لأكسعنك بشيء ليس في حسابك:

سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

وكان آخر ما قاله من الشعر:

يا رب قد أشرفت نفسي وقد علمت

علماً يقيناً لقد أحصيت آثاري

يا مخرج الروح من جسمي إذا احتضرت

وفارج الكرب زحزحني عن النار


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد