Al Jazirah NewsPaper Tuesday  22/01/2008 G Issue 12899
الثلاثاء 14 محرم 1429   العدد  12899
على هامش تأبين (العنقري)
الراحلون بالتاريخ إلى غياهبه
حسن بن فهد الهويمل

رحم الله أوعية الأسرار ومدافن الأخبار والناهضين بشطر الأحداث مع صناعها، حين يبرحون مقاعدهم إلى تقاعدهم، أو حين يقضون نحبهم، وهم على العهد والوعد، لم يبدلوا تبديلا.

والمسؤوليات كالمسؤولين تختلف أهمية، مثلما يختلفون في التألق والتفوق، وفي المكث فيها والتأثير من خلالها، حتى يكون التكرير لهم فيها أو التدوير لهم في المناصب ضرباً من حسن التدبير والتقدير، لما لهم من براعة في الفعل المصيري، وتضلع من شفراته، وتمكن أمكن من متطلبات المرحلة وتقلبات الطقس السياسي تجعلهم جزءاً لا يتبعض من أشياء الوطن المهمة، وكم من مسؤول مرق من المسؤولية مروق السهم من الرمية لم يترك أثراً، ولم يحمل خبراً، وآخر كصخرة الوادي في الثبات، وكالجوزاء في العلو والتألق، وكجوف الفراء في احتواء كل الصيد.

ورحيل هذا الصنف من المسؤولين يوقض في المسكونين بهموم أمتهم فضول التساؤل، ويبعث في أعماقهم الخوف والترقب والحزن، فرحيل مثلهم يجر وراءه فصولاً من تاريخ البلاد وأحداثه الجسام، وما من فاعل في مشاهد الوطن او متفاعل مع أحداثها الداخلية أو الخارجية إلا وعند الكافة توق وشوق إلى أخباره التي يرويها بنفسه، متحدثاً بها، أو راصداً لها، أو يتناقلها خلطاؤه ممن أمسكوا بأطراف الأخبار، ولم يستكملوها، وتاريخ النجاحات والإنجازات عمر رديف، يجد فيه اللاحق من اللذة والمتعة ما وجده الشاهد، وبناة الحضارة والمدينة يتخطفهم الموت الواحد تلو الآخر، وكل راحل يحمل بين جنبيه أسراره التي لا يملكها، العظماء ومجايلوهم جزء من تاريخ البلاد، وكل راحل يبغته الموت، وهو يعد ويتمنى دون رصد يضيف بموته حلقةً إلى الحلقات المفقودة من تاريخ ما أهمله التاريخ، مما ندَّ عن التوثيق، وإن ترك بصيصاً من الذكر الحسن الذي يمَّحي مع الزمن لانعدام الوثائق وموت الرواة.

ومثل هؤلاء الرجال الأفذاذ بما تولوا من مسؤوليات، وما أنجزوا من أعمال، وما وعوا من تجارب وذكريات ومواقف صارت بموتهم خبراً من الأخبار، لا يكون رحيلهم هيناً على التواقين إلى معرفة بناة قواعد المجد.

ولما كانت المواطنة الحقة لفيفاً من القيم الحسية والمعنوية، فقد أصبح المسؤول جزءاً من تلك القيم، وسيان أن يكون مقلاً أو مكثراً، وفقد مثل هؤلاء يحرك كوامن النفوس، ويبحث على التساؤل عما رحل به من أخبار ما كان لها أن تموت بموته، ومالتيار الجارف إلا قطرات من الماء، وإذا كان المحللون السياسيون يجدوك فيما أفرج عنه من وثائق ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين فإن نجاحات الوطن لم ينشق عنها الغمام، وإنما تفتفت عنها أذهان الرجال.

والسير الذاتية والذكريات والمذكرات والأيام من أجمل السرديات وأعذبها ولا سيما إذا أفصحت عن مراحل ربيعية ذات بهجة، فأحقاب التاريخ كسنابل يوسف وبقراته، والسعيد من عاش سنابله الخضر وبقراته السمان.

ولأن المملكة فتية تسبق ظلها، ومبادرات قادتها تترى، فإن أيامها ستظل حبلى، ومن حق أبنائها أن يعرفوا تفاصيل كل شيء مما هو في صدور الرجال ولقد أدركت (دارة الملك عبدالعزيز) فوات محطات من التاريخ بشقيه: التكويني الذي خاضه (الملك عبدالعزيز) ورجاله الأوفياء الأشداء، والبنائي الذي بادره الأبناء وأحفاد الرجال، ولكيلا يموت هذا التاريخ بموت الرجال بادرت بالرصد واستبقته من أفواه الرواة، ونقبت في عرض البلاد وطولها عن سائر الوثائق التي لم تكن بأيد تقدرها قدرها.

كما بادرت إلى تنفيذ ندوات عمن ولي الأمر من أبناء المؤسس، وكل مرادها قيد الشوارد من الأخبار، ولو أن كل مسهم في التكوين أو البناء أدرك أهمية البوح بما لديه، لكنا قد عرفنا رجالاتنا وإنجازاتهم، واتبعنا أحسن ماقالوا وأجمل ماصنعوا، وهل هناك ألذ على النفس من قراءة التاريخ الحديث الذي هو جزء من حياتنا؟ فالوطن ليس وقفاً على الأسواق والمنشئات إنه قيم حسية ومعنوية وذكريات وأعمال ورجال تداركوا مالم تستطعه الأوائل وكل منجز بحسبه، وهل يعمر الناس بحالهم إلا بالحديث عما فعلوا؟

أقول قولي هذا وأنا أشهد في كل يوم وفيات الأعيان واستمع إلى سير أعلام النبلاء يتصيدها الخلف عمن رحلوا، وكم نسمع نعياً من (الديوان الملكي) يجمل خصال راحل لا يعرف دخائله إلا صفوة الصفوة ولا يبلغنا منها إلا معتصر المختصر، ونحن أحق بها جملة وتفصيلا، لأنها تاريخ أرضنا وديارنا، ولا نود أن نسمعها من مغرضين مزايدين يفترون الكذب ويزورون التاريخ، وما أكثر الذين يتربصون بأخبارنا الدوائر، وإن كان المكر السيء لايحيق إلا بأهله. وقبل أيام نعى الديوان الملكي معالي الشيخ إبراهيم بن عبدالله العنقري ومن قبله نعى آخرين، ليسوا بأقل أهمية ممن أبلوا بلاء حسنا، وشهدوا تكوين البلاد وبناءها، وانطووا على أسرارها وأخبارها، وكل راحل تطوى معه صحائف إنجازه أو اسهاماته، وإن كانت تلك الصحائف منه فإنها ليست له، وإنما هي جزء من تاريخ الوطن، وحين يكون تاريخ الراحل ملكاً مشاعاً تتعلق به النفوس، ورحيل الأفذاذ تتداعى معه الذكريات، فكل مؤبَّن يشهد بما علم من أعمال الفقيد ومحاسنه، ولكنها مع الزمن تتفلت من الذاكرة. والفقيد عاش حقبة مهمة من تاريخ البلاد، وكان قريباً من الملك فهد رحمه الله، ومن قبله - وعلى ذات الوتيرة - رحل معالي الشيخ (عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري) وكان قريباً من الملك عبدالله حفظه الله، وما كتب أحد منهم سيرة حياته العملية وهي سيرة حاملة بجلائل الأعمال، ولما لم أكن من خلطاء الفقيد بل لم أره ولم أحدثه إلا مرة واحدة فإن توقي إلى خبره امتداد لتطلعي إلى تاريخ بلادي في العسر واليسر والمنشط والمكره.

لقد كان لقائي الأول والأخير بمعاليه يوم أن كان وزيراً للشؤون البلدية والقروية، وذلك حين مر بالقصيم في رحلة متابعة واستطلاع، وكنت المتحدث الرئيس في حفل التكريم، ومن عادتي حين أتحدث إلى مسؤول من أصحاب الوزن الثقيل أن أنكب عن الثناء جانباً، واستبعد المثاليات والطوباديات وافترض الخطأ والتقصير، وأذكر المسؤول بأنه ينسج بأنامله رداءه الذي يخرج به على الناس، ويكتب بفعله تاريخه الذي سيخلفه بعد الممات، فإن أحسن فلفسة وإن أساء فعليها، وأنظر إليه كواحد منا، لاتميزه إلا المسؤولية التي هي في النهاية خليط من التكليف والتشريف، فإن أخذها بحقها أخذ معها شرفها و(إلا فلا) وإن كانت له مبادرات أشرت إليها، وإن كان غير ذلك ألمحت، وحذرت والتمست العذر ما أمكن، وحين انفض سامر الحفل أقبل عليَّ بوجه طلق شاكراً ومقدراً ومتعهداً بأن يكون على العهد والوعد، وأن يعمل ما يقدر عليه، ولقد عهدته كذلك، ورجالات الدولة الناصحون لايودون التغرير بهم، ولا تزوير صورهم، فهم أحرص الناس على المرايا المقعرة التي يرون فيها أنفسهم كما هي، ولكن البراعة في حسن التبليغ وتخول المناسبة في التوصيل، وتقديم المطمئنات بين يدي التساؤلات، فكم من رسالة خانها التعبير، وقعد بها سوء الخطاب. ورحيل رجل بحجم الفقيد في صمته المهيب وتواضعه الجم وهدوء طبعه ومواكبته للأحداث الجسام سيترك في النفوس الوجلة حزناً لا نقول معه إلا ما يرضي الله من صبر واسترجاع وذكر لمحاسنه، وإن كان قد أخلى موقعه راضياً مرضياً قبل أن تخلو منه الدار الغائبة.

وأهمية الراحل في تقلبه في عدة مناصب مهمة، وفي قربه من صناع القرارات المصيرية، ومواكبته لمبادرات الملك فهد رحمه الله، وما يتمناه المخلصون ألا يموت بموت هؤلاء شطر من تاريخ البلاد.

وإذ لا تدري نفس ماذا تكسب غداً ولا تدري نفس بأي أرض تموت، فإن من حق الأحفاد على الأجداد أن يكتبوا لهم تاريخهم الذي هو جزء من تاريخ البلاد، وما أكثر الكفاءات الوطنية التي تعد أوعية علم نافع وسجلات تجارب حية وأرباب مشاطرات جسيمة وأصحاب إنجازات مهمة، وهي صامتة لا تتكلم، وما كان بود أحد أن يظل التاريخ حديث مجالس يأتيه الزمن لينقصه من أطرافه، وماعلموا أن آفة الأخبار رواتها، فهل يوعظ بالراحلين من هم على قيد الحياة من رجالات دولتنا الأوفياء لدينهم ووطنهم وقادتهم.

أرجو ذلك.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد