Al Jazirah NewsPaper Sunday  27/01/2008 G Issue 12904
الأحد 19 محرم 1429   العدد  12904
ضروب الموازنات 2-2
د. سلمان بن فهد العودة

ومن أنواع فقه الموازنات:

5- فقه الاستطاعة، وهو جزء من الموازنة، فإن الاستطاعة قد تكون بمعنى الضرورة البدنية، وهذا ظاهر: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).ولكن استطاعة المجتمعات أمر وراء ذلك، فهي لا تقاس بالمعنى المادي، بل أثرها المعنوي أعظم.

وقد يستطيع فرد أن يعمل شيئاً ولكن يترتب عليه ضرر أعظم، فهو هنا ليس بمستطيع بالمفهوم الشرعي، كما في قوله ژ : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَان) رواه مسلم.

والتغيير جملة يحتاج إلى حكمة وروية، ومعرفة بالسنن، وإذا حُمل الناس على ما يشق عليهم أو يعنتهم، أو ما لا يقتنعون فيه أفضى ذلك إلى الفساد العريض، وهذا ما اعتذر به عمر بن عبد العزيز حين طالبه أحد بنيه بالإسراع في الإصلاح في حركته السياسية، وبناء على هذين الأمرين فإن الحديث عن شعار (الإسلام هو الحل) يحتاج إلى تفصيل.

فهي حقيقة لا شك فيها، لكن يعلم أن تطبيق تفصيلات الشريعة لا يكون إلا بتأهل الناس لذلك، وتربيتهم عليه، واستعدادهم النفسي والاجتماعي والاقتصادي لتبعاته.

ويجب مراعاة أن الناس على أصل الإسلام، ومن الإسلام خير كثير موجود وقائم بينهم، فلا يُفهم من هذا الشعار أن الإسلام مغيب عن واقع الحياة.

وقد يُفضي تكرار اللفظ إلى الشعور بأننا نملك وصفة جاهزة لإصلاح كل الأشياء، بينما منهج الإسلام ذاته هو إصلاح متوازن متدرج، يُفضي بعضه إلى بعض، ولا ينفصل عن استحقاقات الواقع، كما في قوله ژ لمعاذ: {إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ} متفق عليه.

مع أهمية إدراك ألا يُفضي هذا الاستخدام إلى الشعور باحتكار أو خصخصة لمفهوم التدين، فالإسلام حق مشترك لكل منتحليه وإن كان الله تعالى فضَّل بعضهم على بعض.

مع التفريق بين ما هو شريعة محضة لا خلاف عليها، ولا يسع أحداً من المسلمين التشكيك فيها، وبين ما هو محل اجتهاد وخلاف بين العلماء، ومع التفريق بين الواجب الظرفي والواجب الأصلي، كما بيّنا.

ومع التفريق بين المطلب الإيماني، وبين الواقع البشري، فإن الناس جبلوا على الخطأ، وفي التطبيق النبوي ثم الراشدي حصل لبعض الناس نوع تقصير أو معصية أو اختلاف أو تردد، مما يوجب النظرة الواقعية المتأنية، والتي تصنع القناعة لدى المصلحين أن المجتمعات لا يمكن عسفها على ما يعتقد أنه الأفضل، وإنما الإصلاح الحق هو معرفة حال المجتمع أولاً، ومعرفة ما يمكن أن يتقبله من الإصلاح ثانياً، ووضع خطة الإصلاح على هذا الأساس.

مع رعاية اختلاف المصلحين أنفسهم في مناهجهم وطرائقهم ومداركهم.

ومن الموازنة الاقتصاد في الجدل بينهم، فلا تلغى تحت ذريعة إظهار الوحدة المنهجية، ولا يطور ليتحول إلى تراشق واتهام وتعويق لمسيرة العمل الجاد.

إن باب معرفة الأصلح والأرجح والأفضل من حيث الوجوه جميعها أو أكثرها مما تختلف فيه الأنظار، بحسب اعتبارات عدة:

أ- منها علم الشريعة، فإن علم الكتاب والسنة بصيرة ونور، يهتدي بها الفقيه في ظلمات النوازل والمشكلات والملتبسات.

ب - معرفة الواقع، فإن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وإدراك تداخل المسائل وترابطها ومآلاتها ونتائجها مما يحتاج إليه المجتهد أو الفقيه.

ت- التجربة والخبرة، فإن العلوم على الورق شيء، وفي محك الحياة العملية شيء آخر.

ث- سعة الإدراك والتفكير، فإن الناس متفاوتون في عقولهم الفطرية الغريزية، ومتفاوتون في طريقة البحث والتفكير والنظر، ومتفاوتون في حجم العلوم والمعارف المتوفرة لديهم.

ج- كمال التجرد أو الوقوع تحت ضغط أو تأثير خاص أو عام.

قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (83) سورة النساء.

6- باب الذرائع والموازنة بين إغلاق الذريعة تجنباً للمفسدة، وبين فتحها تحصيلاً للمصلحة، وبعض الغيورين يتقنون سد الذريعة أكثر مما يتقنون فتحها، أي أنهم يعملون مبدأ الخوف أكثر مما يعملون مبدأ الثقة، وهذا دليل ضعف، فإن الخوف علامة ضعف إذا غلب، وتجاوز حده.

ولا يصلح أن يقع الفقيه أسيراً للمجتمع، فهو يتردد أو يحجم حتى يرى الناس قد أقدموا، فإذا رأى الأمر استقر وتعارف عليه الناس تقبله وسكت عنه.

إن الفقيه يجب أن يكون في الصفوف الأولى فهماً وإدراكاً وشجاعة، مع رعاية جانب ما يحتمله الناس ولا يحتملونه، كما قال علي رضي الله عنه: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ.

إن من الموازنات المهمة الاعتدال في النظر بين مهادنة ما هو موجود وقائم من الأخطاء العقدية أو السلوكية أو انحرافات الفكر والنظر، تلك الانحرافات والأخطاء التي أفرزت حالة التخلف، أو أفرزتها حالة التخلف الإسلامي، ولا سبيل للنهوض إلا بدحضها وإبعادها، وتحرير الشخصية الإسلامية والعقل المسلم منها، وبين ضرورة الحفاظ على قدر من السكينة عند الناس وطول النفس؛ لئلا يغرد المصلحُ أو الداعيةُ في السِّرب وحدَه، ويبتعد عن الناس، الذين هم محل التأثير.

وهذا فقه دقيقٌ يحتاج إلى شمولية النظرة، فليس المقصود بالناس هم خصوص الفئة المحيطة بك، ولكن عموم المستهدفين بالإصلاح.

والحراك العملي يمنح الداعية خبرةً أفضل في كيفية التعاطي الرشيد مع هذه المسألة؛ لئلا يقع في مقابل هذا في فخ الأسر للجماهير، ويصدق عليه المثل: أنا قائدكم فدلوني على الطريق !

7- فقه المقادير، وهو من أعظم صور الموازنة، وهو يكون فيما وردت فيه نصوصٌ شرعية بالأمر به، أو النهي عنه، أو فيما تقتضي المصلحة فعله أو تركه، ولكن ضمن هذه التشريع أو المصلحة درجات، فهناك الركن والواجب والشرط والمستحب، وهناك ما يخص الفرد وما يخص الجماعة، وفي المنهيات هناك الشِّرك، ودونه الكبائر والموبقات، ودونها الذنوب، ودون ذلك الصغائر، ثم اللمم، ثم المكروهات.

وفي التنزيل قال جل وعلا: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (3) سورة الطلاق، وكثير من المتعبدين والصالحين يميلون مع شيء تهواه نفوسهم، وهذا بحد ذاته لا تثريب فيه، ولكن التثريب أن يتحول هذا الميل إلى نوع من التشريع والمطالبة للناس بمثل هذا، وتغليب بعض الفروع أو المطالب المتأخرة في رتبتها عما هو أمثل وأفضل منها، ومن التربية وضع الأشياء وفق مقاديرها، ولعل ربط المتعلمين بالقرآن الكريم وفهمه وتدبره مما يضبط لديهم المعيار، فيعظمون ما عظم الله، ويعتنون بما تكرر وروده في التنزيل، ويضعون الأشياء التي تجري جرى اهتمام الناس بها لسبب غير موضوعي في موضعها، فلا يقع الإهمال ولا الطغيان، ولعل هذا جزء من مفهوم قول الله سبحانه وتعالى: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ* وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}. والله تعالى أعلم، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد.

1-1-1429


salman@islamtoday.net
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6847 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد