Al Jazirah NewsPaper Tuesday  29/01/2008 G Issue 12906
الثلاثاء 21 محرم 1429   العدد  12906
بين زلَّة التعبير وخطأ التقدير.!(1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل

لكل إنسان هم واحد يملأ جوانحه، ويستهلك جهده ووقته فيما يكون للرجل الاستثنائي بمفرده عشرات الهموم السابحة في فضاء تفكيره، فمعاناته وتداعياته ومتابعاته تكبر وتتعدد وتتفاوت لتكون بقدر قامته ورجل بوزن (سلمان بن عبدالعزيز).....

..... يظل كما لو كان موكلا بكل حشرجات الآخرين وتأوهاتهم وإصاباتهم وإخفاقاتهم، يذرعها جيئة وذهابا. تراه إلى جانب مسؤولياته الجسام بوصفه رجل دولة مع المثقف حين تتقطع به الأسباب، يقيل العثرة، ويبلسم الجرح، ويَحْسُر العتمة عن مواطئ الأقدام، داعما أو مرشدا، وتراه مع الحق حين يحيد بالمثقف الوهم، أو حين تشطح به المثالية، أو حين يقعد به التشاؤم، أو حين يخونه التعبير.

وتراه في المواقع كلها يتفاوت انفعالاً وتفاعلاً، ولكنه يظل متألقاً. وأجمل المشاهد أن يشاطر رجل الدولة المتعقبين للأوضاع، وأن يختلف معهم، مستخدما ما يتوفرون عليه من قول لا يسنده إلا الحق، فسقط الزّندِ لا يُوْري إلا بالاحتكاك الموزون، والاحتكاك غير صدام الأجرام.

ولكيلا يعمينا الحب، ولا يُصِمَّنا الإعجاب نقول: إنه في شأنه كله صواب يحتمل الخطأ، وإن كان أوابا حين يبدوا له وجه الصواب.

وليس من حقنا أن نتخذ التزكية، ولا أن ندعي العصمة لمن نهوى أو لما نريد، ولا أن نرقى بمن أحببنا فوق النقد والمساءلة والتقويم، ولكن من الحق والواجب أن يشهد المنصف بما علم، وأن يعرف لذوي الفضل فضلهم، كما يجدر بكل قادر على الإيقاف والسؤال من الكتاب الناصحين التماس العذر للمخطئ على حد: (لعل له عذرا وأنت تلوم).

وعند بدو الخطأ أو التقصير من المسؤول ابتداء لا يليق بالمتعقب من الكتاب أن يتعجل بالإدانة، ولا أن يطلق ولا أن يعمم، ما لم يترتب على التعذير والتريث تكريس الخطأ أو مضاعفته أو استمراؤه، وبين الإقدام الموزون والإحجام المبرر أمور مشتبهات، قد توهم بأنها من المحكمات، واضطراب المفاهيم خدر ينساب في الأعضاء فيشلها عن حركة البناء، والرصد والمتابعة والمساءل والمناشدة وقود يمد بالطاقة، ويذكي كوامن القدرات:

و:- لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

وما كنت أحمد لكاتب قدر ما أحمده لمن يثير رجلا بوزن (سلمان بن عبدالعزيز) في أمور ليست من صميم مسؤوليته الوظيفية، وإنما هي من صميم همه الوطني، كالنيل من الأطباء البررة لمساقط رؤوسهم، أو كالمساس بأجهزة الأمن، عند معالجة ارتفاع معدل الجريمة، وإن كان التحيز الإقليمي داء الضعفاء من المسؤولين وارتفاع معدلات الجرائم ملفتا للنظر، وكم هو الفرق بين المؤسسة كمنظومة والخطة كإجراء وفشل الخطة لا يمتد إلى المؤسسة، والوقوعات لا تشكل الظواهر إلا عند التنامي والثبوت، وهزيمة الخطة أو فشلها لا يجر المؤسسة، وإنما يوقظ فيها كوامن القدرة.

وليس الحمد لكل مثير ف(هارون الرشيد) وهو يطوف بالبيت سمع من يخاطبه باسمه وبصوت مسموع: (يا هارون اتق الله) وحين عرف الناصح أجهش بالبكاء، وأقبل عليه يسترضيه ويقبل رأسه، وسمع من العام القادم وفي ذات المكان من يقول مثل قول سلفه، فأمر بجلده وإخراجه من المسجد الحرام، فالقول واحد، ولكن لكل قائل وقول مقامهما ودوافعهما ومسوغاتهما، وكم من قارئ سرق لتلاوته القلوب، وتذرف بسماعه الدموع، وآخرون يلحِّنُون القرآن، ثم لا يحركون ساكنا، مع أن القرآن لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، إذا الفرق في القرَّاء، وليس في المقروء، ولقد قيل:

الآية هي الآية ولكن الشخص غير الشخص

وما كل من ركب الجواد جوادُ

خطأ التقدير والتوقيت يخفف من وطأتهما ألد الخصام، والمحق العي يكون في الخصام غير مبين، بحيث لا يشفع له حقه المضاع بسبب لوثة التعبير.

فقد ينطوي المستصرخ على شيء من الحق، ولكنه لا يحسن التعبير، فيفقد حقه، ويؤخذ بجريرة الإساءة لا بخطأ البواعث، (والحق قد يعتريه سوء تعبير) والرسول صلى الله عليه وسلم حذر الخصوم، حين يعول في حكمه على الألحن معللاً ذلك ببشريته، فالكاتب أو المتحدث قد يبالغ أو يتعدى فيفسد على نفسه قضيته، والله جل وعلا حين جعل لولي القتيل سلطانا أمر بألا يكون هناك إسراف في القتل، وكذلك حين تكون للكاتب أو المتحدث قضية فعلية ألا يسرف في القول.

والتعدي منهي عنه حتى في الدعاء، وحق كل شريك في الهم الوطني أن يواجه أي خطاب بما هو أهل له، وعلى المضطلعين بهم الكتابة أن يتحملوا ما يلاقون في تصديات الشركاء في الهم متى خانهم التعبير أو خالفهم التقدير.

وإذا كان من واجب المسؤول السماع واتباع أحسن القول وتفادي أخذ العزة بالإثم فإن من حقه التصدي لكل متعد لا يؤمن بالتكافؤ في الحقوق والتوازن في الآراء، وما كان لأحد من كل الأطراف أن يزكي نفسه، ولا أن يتطوع أحد لتزكيته، ولا أن يتصور الأشياء على غير ما هي عليه.

والكاتب العدل من ينقل نبض الشارع دون مبالغة أو مزايدة بحيث يضع عين المسؤول ويده على مكامن الأخطاء بأمانة الشاهد وصدقه وتوخيه للحق والعدل، على أن يجتهد في تحري البدائل المتلافية للخلل، شريطة أن تكون في إطار الممكن والمقدور عليه، ويقيني أن المصداقية والتعقل والتوازن أشد وطأً وأقوم قيلا، وأكثر إحراجا للمسؤول، وأي حيدة ستتيح الفرصة للتفلت والتنصل من المسؤولية بحجة أن هذا كلام جرائد. وكم من حق صراح أضاعه المرجفون، وليس من حقنا أن ننحي باللائمة على الكتاب وحدهم ولا أن نخوفهم من تقحم المجاهيل، ولا أن نسعى لتحصيل ما في صدورهم ولكننا نود المحاسبة والتوازن، وأي طرف من أطراف القضية، مسؤولا كان أو كاتبا يرى أن فعله الأسلم والأحكم، وأن قوله الفصل الذي لا معقب له يعطل فرص التفعيل والتفاعل بين المنجز للمشروع والمتعقب له، وما عهدت تلك خليقة عند من يحملون الهم ولا يريدون من ورائه جزاء ولا شكورا، وحين تشبع الخلال السيئة في القول أو الفعل يكون إثم الطرفين أكبر من نفعهما، والكاتب المتحري كالمسؤول القوي الأمين لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولن يستقيم الشأن الوطني إلا بطرفي العملية وأي خلل في أحدهما سيكون أثره على المستهمين على السفينة، فالكاتب العليم خير من يملك القدرة على اختراق الحجب وسبر الأغوار ومثل هذه المغامرات تتطلب أهلية المخترق وضرورة الاختراق، فما كل من اقترف مهنة القول في الشأن الوطني أهل لها، وليس كل اختراق له ما يسوغه، فالمسؤول مواطن خارج مسؤوليته له ما للمواطنين وعليه ما عليهم، وهو في معمعة المسؤولية مطالب بالأداء السليم وخاضع للمساءلة المشروعة، وتلك معادلة صعبة لا يحسن تقويمها ولا تقديرها إلا من وهبه الله عقلا حصيفا ومعرفة عميقة وتجربة طويلة، وواقعية لا تتدنى لتكون قاب قوسين أو أدنى من القاع، ودقة في التقدير والتوقيت، وتنزيلا للأناسي منازلهم، وأخذا للأحداث بما هي عليه، وتفريقا بين الوقوعات العارضة والظواهر الشائعة.

والوطن حين يكون جماع ذلك كله تكون قضاياه سواء في الأهمية والاهتمام، وأناسيه ومؤسساته جزء لا يتجزأ من كيانه، إذ هو قيم حسية ومعنوية، وكل إنسان راع، وكل راعٍ مسؤول عما استرعاه الله عليه، وما من أحد إلا هو على ثغر من ثغور الوطن وواجبه ألا يؤتي الوطن من قبله، وليس هناك مثل أدق من (أصحاب السفينة) المستهمين الذين ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل بهم إزاء أي تفريط أو تجاوز يخل بسلامة السفينة يمس ضرره الجميع ومن ثم فإن المسؤولية جماعية والإفراط والتفريط طرفا نقيض وخير الأمور الوسط.

وقيمة الإنسان ليست في مجرد المغامرة في القول أو في الفعل وانتهاز الفرص والمزايدة، ولكنها في الإقدام حين لا يكون بد من الإقدام، وفي الإحجام حين تحمد السكينة ويطلب الوئام، وبخاصة في زمن أصبح الناس فيه أهل قرية ليست آمنة ولا مطمئنة.

(يتبع)


لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد