Al Jazirah NewsPaper Tuesday  29/01/2008 G Issue 12906
الثلاثاء 21 محرم 1429   العدد  12906
(الثقافة القلقة).. لا أحد ينجو من قلقها!
د. عبدالله البريدي

تشخيصنا لثقافتنا العربية المعاصرة قادنا إلى نعتها ب(الثقافة القلقة)، وقد يكون ضرورياً إعادة التأكيد على أن القلق الذي يشوب ثقافتنا في حياتنا الراهنة هو من النوع العميق المترسخ، فهو قلق (يغرس) أضافره الطويلة في جسد تلك .....

.....الثقافة، مما يجعله قلقاً مستبداً ومبثوثاً في خارطتنا الثقافية بشقها الفكري والوجداني، أي أن القلق الذي نعانيه هو (قلق سمة)، فهو سمة ثابتة - نسبياً - في ثقافتنا، أي متشبث بها، وليس (قلق حالة) عابرة أو مؤقتة.

ومما سبق يمكن القول أيضاً إن (الثقافة القلقة) تعني أننا كأفراد وجماعات ومؤسسات نعيش القلق في تفكيرنا وممارساتنا، ونحن هنا نشير إلى التفكير والممارسة التي لها صلة مباشرة بالثقافة أي تلك التي تتأثر بها بشكل جوهري، وهذا يعني أن تحليلنا لا ينصرف إلى التفكير أو الممارسة ذات الطابع الشخصي البحت وهو ما يمكننا تسميته ب(الفعل الشخصي) كالزواج وبناء المنزل والأنشطة العائلية والارتباطات الاجتماعية ونحو ذلك، وهذا لا يعني أن الفعل الشخصي بمنأى عن حوض القلق، كلا، فهو معرض له، ولكن بدرجة أقل، وربما بأشكال غير مباشرة.

أحسب أنه لا يسعنا أن ننفي ذلك التوصيف لثقافتنا ولا أن ندحض ما نجده من القلق في كل ما يمكن أن يتصل ب(الفعل الثقافي) على وجه الخصوص، وهنا لا بد من استلال نتيجة هامة من المقدمات السابقة وهي أن الإنسان العربي مدرك لا محالة نصيبه - قل أو كثر - من (الثقافة القلقة) في (أفعاله الثقافية) حتى لو توفر على أكبر قدر ممكن من الطمأنينة في (أفعاله الشخصية)، فالثقافة لا تدع أحداً من أبنائها إلا ونحلته شيئاً من فضائلها وسوءاتها، محاسنها وعيوبها، طمأنينتها وقلقها!

ومن الأمور الهامة التي ينبغي بيانها هنا أن هذا القلق الذي يستبد بثقافتنا هو في أصله شيء نتعلمه وليس شيئاً ملتصقاً بنا كعرق عربي، إنه استجابة انفعالية نكتسبها - كأفراد ومؤسسات - من السمة المهيمنة على هذه الثقافة العربية التي تصنّع طرائق تفكيرنا وتشكّل ذاكرتنا الجمعية وتؤسّس مزاجنا العام؛ تلك الثقافة المضطربة الخائفة من (معلوم يشبه المجهول) أو (مجهول يشبه المعلوم)... إنها تلك الثقافة التي يكتنفها قدر كبير من اللاطمأنينة واللاستقرار واللاحسم واللاثقة، فهي ثقافة يشوبها الاضطراب في الشعور، والدونية في تقييم الذات، والتكلس في التفكير، والضعف في الأداء، والنقص في الفعالية، والضمور في الطموح، والتردد في القرار.

وفي هذا السياق تجدر بل تتعين الإشارة إلى أن من طبيعة الفعل الثقافي الديناميكي تلبسه ببعض الخصائص التي لها ارتباط من بعيد أو من قريب بحالة يصفها أو يراها البعض (قلقاً)، ذلك أن (الثقافة النشطة) تتضمن فلسفة ابتكار وآليات خلق الأسئلة بجوانبها الفلسفية والفكرية والبحثية بشكل لا متناهٍ، أي أن الثقافة النشطة لا يمكن أن تركن إلى سكون شامل وطمأنينة أبدية بمجرد ظفرها بإجابات مقنعة على أسئلة بعينها تجاه مختلف القضايا في الفلسفة والعلوم والنهضة والتحضر؛ فسكون أي ثقافة لفترة متطاولة يعني حتماً (أسنها) بل موتها وخروجها عن دائرة التأثر والتأثير... ويعني ذلك أنها باتت لا تنتمي إلى عالم الإبداع والابتكار... وهو ما لا نتوقع حدوثه لأي ثقافة إنسانية تتوفر على مقومات الفعالية الثقافية بحدودها الدنيا، بما يتضمنه ذلك من وجود المثقفين القادرين على تشغيل (مكائن الثقافة) للقيام بوظائفها المختلفة.

إذن وتأسيساً على ذلك يلزمنا التأكيد على أن مصطلح (الثقافة القلقة) في سياق هذا الموضوع لا ينصرف في معناه إلى تلك الطبيعة الديناميكية للثقافة وما يتولد منها من أفعال ذهنية خلاقة تتصل بعمليات خلق وتوليد الأسئلة والإجابات على النحو الذي أشرنا إليه آنفاً، حيث يمكن اعتبار هذا المعنى الشق الإيجابي (لقلق الثقافة)، وإنما يتوجه المصطلح بشكل رئيس إلى حالة التوتر النفسي والتشوش الفكري للفعل الثقافي الذي يثمر - ضمن أشياء أخرى - ضعفاً في ثقة الإنسان العربي؛ إما تجاه ثقافته أو تجاه ذاته أو تجاه إمكانية النهوض أصلاً أو تجاه تلك الأشياء جميعاً، كما ينتج ضعفاً في تركيز المثقف العربي وجديته وأولوياته وأدواته في ممارساته الثقافية المتنوعة؛ وتردداً وتلوناً مضطرباً في تحديد الأطر التي تحكم علاقاته وتفاعلاته ومكاشفاته مع المرجعية والسلطة، أياً كانت، رمزاً ومضموناً؛ وأخيراً ضعفاً في قدرة المثقف - الباحث العربي على الإنتاج الإبداعي في ميادين الفلسفة والمنهج والعلم والأدب والفن، فضلاً عن ضعف اصطباغ المنتج الثقافي العربي - بوصفه العام - في تلك الميادين ب(كارزمية) ثقافية كافية تفلح في (تسويقه) في الإطار الثقافي العربي الإسلامي؛ في زمن تبور فيه الأفكار التي لا تسوق بشكل ذكي كما تبور السلع التي لا يحشد لها الملايين للإعلان والترويج!!

إذن وباختصار يمكننا القول أن ثمة فرقاً جلياً بين: (قلق ثقافة) و(ثقافة قلقة)... وهما أمران أو صفتان لا تجتمعان على نحو كبير في أي ثقافة إنسانية نشطة يدفعها قلق السؤال للبحث والتشخيص المنهجي الدائم، وهذا يعني أنك (إن أردت أن تظفر بقلق الثقافة الدافع للسؤال الخلاّق فعليك أن تتخلص من الثقافة القلقة المشوشة له!).

ويمكن أن نظفر بمزيد من الأدلة وتنوع في البرهنة على دقة التوصيف بالثقافة القلقة من خلال مطارحة منهجية حول السمات المحورية لتلك الثقافة، وهو ما سيكون في المقال القادم، حيث سنجيب على هذا التساؤل: ما هي أبرز سمات الثقافة القلقة؟





beraidi2@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد