Al Jazirah NewsPaper Sunday  03/02/2008 G Issue 12911
الأحد 26 محرم 1429   العدد  12911
شيء من
علي الطنطاوي مثالا
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

أنا من جيل نشأ وشب على صوت وطلة الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في برنامجه التلفزيوني الشهير (على مائدة الإفطار) الذي كان يقدمه في شهر رمضان المبارك، والذي كان يحقق انتشاراً -آنذاك- لا يصل إليه أي برنامج. كان الشيخ دائرة معارف متنقلة، سريع البديهة، عذب التعليق، ساخراً أحياناً، فقيهاً، موسوعي الثقافة، يتعامل مع مواضيعه دون تصنع أو تكلف، وببساطة وتلقائية. ورغم شهرته التي دخلت كل بيت في المملكة تقريباً، كان قمة في التواضع، مبتسماً لا يعرف التجهم، مرحاً، صاحب (كفشات)، وتعليقات ساحرة، تدل على رجل عالم، وأديب عذب العبارة، يتحدث في الفقه، وفي الأدب، وفي الاجتماعيات، ثم يعرج إلى السلم الموسيقي فيتحدث عنه حديث الخبير، ولا يجد في ذلك ما يجعله يتحرّج من طرق مثل هذه الشؤون وهو الفقيه والأديب المتميز. وكان قبل ذلك كله يملك جاذبية إعلامية لا يُجاريه فيها أحد من معاصريه.

تذكرته، وتذكرت شعبيته (الطاغية) لدى من هم في مثل سني، وكيف انتزع إعجاب جميع السعوديين آنذاك على اختلاف مشاربهم الفكرية، ليس بتزمته، وتضييقه على عباد الله، واختياره من الأمور أشدها بدعوى (الأحوط)، وإنما بعلمه وأدبه، وخلقه الجم، وتلمسه أسباب التيسير واللين واتباعها، ومحاولاته دائماً تفادي ما يمكن أن يكون فيه العسر والضيق.

الآن تحاول أن ترصد الأسباب التي تُفضي إلى شهرة (الفقيه)، فلا تجد إلا الإغراق في التشدد، والتضييق على الناس، و(التعنيف) في التعاطي مع المخالف، والبعد كل البعد عن الرفق؛ خاصة من شباب طلبة العلم؛ حتى بدا الأمر وكأن التشدد هو (نقطة الحسم) التي ترجح كفة هذا على كفة ذاك، أو تعطي هذا الفقيه أفضلية على الآخر.

كيف كنا بهذا القدر من (التسامح) والدليل شعبية الشيخ الطنطاوي الكاسحة؛ ولماذا أصبحنا بعد ذلك بهذا القدر من (التزمت) والأدلة ما تعايشون لا ما يُذكر لكم؟ .. سؤال لا أدّعي أن لدي إجابة عليه.

أما الذي أنا متأكد منه فهو أن التشدد، والمغالاة في الممانعة، وعقلية (الأحوط)، والإمعان في التضييق على الناس، جدير بإيصال أي مجتمع إلى حالة من (التعصب) ستنبت- كما هي تجربتنا مع التطرف- من الأمراض والعلل الفكرية والثقافية ما سوف يقود هذا المجتمع حتماً إلى (التكفير) والإخراج من الملة، الذي هو أقصى حالات التشدد، وبالذات عندما تستخدمه بعض الفعاليات المنسوبة إلى الشريعة في إباحة القتل، وإذكاء الفتن، وتأجيج الكراهية والأحقاد بين الناس، كما تفعل الفرقة المُسماة: (الجهاديون السلفيون)، والتي هي إفراز منحرف من إفرازات الفكر السني المتشدد.

وكما علمتنا التجارب ففي حالات التشدد، وعندما يسود المتشددون، وتفرض ثقافة التشدد نفسها، يكون التعامل مع القضايا الشرعية بتقديم (الأحوط) على (الأيسر). وعندما تسود عقلية التسامح، ويقود الأمة المتسامحون، يسود تقديم الأيسر على الأحوط.

ومهما يكن الأمر، فيجب أن نتذكر قوله جل شأنه: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } سورة البقرة (185)، وأن نتعامل مع أمورنا مغلبين التيسير على التعسير، والتسامح على التشدد. رحم الله الشيخ الطنطاوي.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6816 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد