في السنوات الأولى من عقد الستينيات من القرن الميلادي الماضي، عمل (عمر الخطيب) عليه رحمة الله في موقع مهم في وزارة الإعلام في إمارة (أبوظبي)، عمل مساعداً للمدير العام للإذاعة والتلفزيون الأستاذ (محمد توفيق الغصين)، وصحب معه عدداً من زملائه من (الأردن) كإبراهيم الذهبي عليه رحمة الله و(حيدر محمود) وغيرهما من الرجال والنساء، فساهموا مساهمة طيبة في تطوير برامج الإذاعة والتلفزيون في تلك (الإمارة)، وكان ذلك قبل مجيئه للعمل في إذاعة (جدة) في نهايات عام ألف وثلاث مائة وثلاثة وثمانين للهجرة....
وقد ذكرت فيما مضى أن لقائي الأول به كان بعد تلك الفترة بشهور، وأنني عملت فترة قصيرة في إذاعة (جدة) انتقلت بعدها إلى (الرياض) مع المجموعة التي انتقلت إليها لنتشرف بافتتاح أول إذاعة فيها، ثم لنفتتح بعد شهور أخرى أول محطة تلفزيونية فيها....
المذيعون الأربعة الأوائل الذين كلفوا بالتناوب بقراءة نشرة أخبار التلفزيون الرئيسية جاء ترتيبهم على الصورة الآتية حسب برقية سعادة المدير العام للإذاعة والتلفزيون: الأستاذ (عباس فائق غزاوي) عليه رحمة الله: زهير الأيوبي -محمد الشعلان- محمد كامل خطاب- منير الأحمد عليهم رحمات الله ثم كلفت باستئناف إعداد وتقديم برنامج (مجالس الإيمان) الذي كنت أعده وأقدمه قبل ذلك في (التلفزيون السوري).... وكنت بين الفترة والفترة أسافر إلى مدينة (جدة) أو غيرها من مدن المملكة لأسجل حلقات جديدة من ذلك البرنامج مع شخصيات جديدة من المشايخ وأساتذة الجامعات ورجال القضاء وغيرهم، وكنت في كل مرة أزور فيها (جدة) ألتقي فيها (بعمر الخطيب) عليه رحمة الله في الغالب فازدادت معرفتي به ومودتي له....
وقد كلف (عمر) في تلك الفترة بتقديم ندوة أسبوعية تلفزيونية يستضيف فيها عدداً من الشخصيات -ثلاثة على ما أذكر- يتحدث عن قضية من القضايا التي تهم الناس، من الزاوية الثقافية أو الاقتصادية، أو الاجتماعية أو الصحية أو غيرها، ولا أذكر مع الأسف اسم هذه الندوة أو هذا البرنامج الذي كان برنامجاً ناجحاً إلا أن الملاحظة الوحيدة عليه هي أن مقدم البرنامج كان يتكلم بصورة عامة أكثر من ضيوفه المتحدثين، وأظنه كان معذوراً في بعض الحلقات على الأقل بسبب أن الضيوف المتحدثين في بعض الأحيان يخجلون أكثر مما يتكلمون، ويفضلون الاستماع إلى غيرهم بدل المساهمة في الكلام والبيان والحوار.
أعدّ وقدّم (عمر الخطيب) عليه رحمة الله برنامجاً تلفزيونياً أسبوعياً آخر هو (فكر واربح) أخرجه له الزميل (رياض ديار بكرلي) ثم أخرجه بعد ذلك الزميل (فوزان الفوزان) وكان برنامجاً منوعاً ممتازاً يتركز على أسئلة مختلفة قد تتدرج في الصعوبة والتعقيد ينال فيها المتسابق جائزة لقاء تفكيره الصحيح أو جوابه السديد، وقد نال هذا البرنامج النجاح ومتابعة الجمهور، وحقق لصاحبه الفوز الكبير والشعبية الهائلة.
***
وفي صيف عام ألف وتسع مائة وسبعة وستين الموافق عام ألف وثلاث مائة وسبعة وثمانين للهجرة، وبينما كنت مستغرقاً في تسجيل عدد من حلقات برنامج (في ظلال القرآن) للإذاعة أبلغني الزميل الأستاذ (خميس سويدان) متعه الله بالصحة والعافية وكان وقتها هو (المراقب العام للبرامج بإذاعة الرياض كما ذكرت آنفاً، أبلغني بأنه تلقى أمراً بضرورة توجهي إلى (بيروت) حسب توجيهات معالي وزير الإعلام في حينها الشيخ (جميل الحجيلان)، للمشاركة في عمل إعلامي..
أنهيت تسجيل الحلقات التي بين يديّ، وتوجهت إلى (بيروت)، فعلمت أن معالي الوزير، ومعه الزميل (عمر الخطيب) في انتظاري في (استوديو بعلبك) الذي كان يديره آنذاك الأستاذ (محمد توفيق الغصين) ويساعده في ذلك الأستاذ (مصطفى أبوغربية)....
وفي خلال اجتماعي و(عمر) عليه رحمة الله بمعالي الوزير علمنا أن معاليه في صدد إنتاج أول فيلم سينمائي إعلامي بالألوان عن (الحج)، وأن اسمه سيكون (الطريق إلى عرفات) وأن مدته ستكون في حدود الساعة، وأنه سيكون بعرض (35) مليمترا، وأن التعليق عليه سيكون باللغة العربية، واللغة الانجليزية واللغة الفرنسية، وسيوزع بعد استكمال إنتاجه على جميع سفارات المملكة في الخارج، وعلى جميع المكاتب الثقافية، والإعلامية، ومكاتب (رابطة العالم الإسلامي) في البلدان المختلفة، وعلى الدوائر الثقافية والإعلامية والدعوية الإسلامية الأخرى....
كان معالي الوزير الشيخ (جميل الحجيلان) مهتماً كثيراً بهذا الأمر لا سيما وأن (الطريق إلى عرفات) هذا الفيلم السينمائي يعتبر أول عمل من هذه النوعية، وأنه يجب أن يكون متميزاً محققاً للغرض، ولذلك فقد قطع معاليه إجازته ليُشرف على هذا العمل الكبير....
كانت الأفلام التي صورت لتكون المادة التي سينشق منها هذا الفيلم جاهزة في (استوديو بعلبك)، وقد تم تصويرها مسبقاً في مشاعر الحج وفي الأماكن والمرافق الأخرى في الموسم الذي سبق تلك الفترة...
وكانت المهمة المطلوبة من (استوديو بعلبك) وكان في ذلك الحين أفضل مكان في العالم العربي ينجز مثل هذه الأمور، كانت المهمة المطلوبة منه هي القيام (بالمونتاج) اللازم لهذا الفيلم ثم القيام بعمل (الميكساج) اللازم بحيث تتم إضافة التعليق باللغة العربية والموسيقى والمؤثرات الصوتية الأخرى إلى الفيلم...
لقد كان للمصوّر الباكستاني (القريشي) على ما أظن دوره الأساسي في تصوير هذا الفيلم، وكان يعمل في وزارة الإعلام، وكان ل(المونتير) السيد (صاحب مداد) العراقي الجنسية الذي كان يعمل في (استوديو بعلبك) جهوده الممتازة في عملية (المونتاج) بصورة خاصة...
أما أنا فاستعنت بالله سبحانه ثم بأخي (عمر الخطيب) عليه رحمة الله وأنجزت كتابة التعليق باللغة العربية، ثم قمت بقراءته وتسجيله بصوتي، وقد تمت كل مراحل هذا العمل التاريخي وخطواته برعاية معالي وزير الإعلام (الشيخ جميل الحجيلان) وإشرافه الشخصي، وقد التقينا في سبيل إنجاز ذلك العمل أنا و(عمر) عليه رحمة الله بمعاليه مرات عديدة سواء في (استوديو بعلبك) أو في الفندق الذي كان ينزل فيه معالي الوزير...
كان لقائي ب(عمر الخطيب) عليه رحمة الله في بيروت ولأكثر من شهر فرصة طيبة تعرفنا خلالها على بعضنا بصورة جيدة، وكان العمل المشترك في الفيلم بجمعنا بصورة يومية أكثر من سبع ساعات وكنا نجتمع كذلك في كثير من الأحيان على الغداء أو على العشاء أو على كليهما.....
أتينا إلى (بيروت) طيلة تلك المدة على مرتين وفي كل منهما كنا نقيم في فندق واحد في غرفتين متجاورتين، نزلنا في المرة الأولى في فندق (فيدرال) وهو من الفنادق الحديثة، وأقمنا في المرة الثانية في فندق (فيدرال) وهو من الفنادق العريقة التي كان لها شهرتها في منطقة (الزيتونة)....
وقد عرفت في (عمر الخطيب) عليه رحمة الله خلال صحبتي له في تلك الرحلة، عرفت فيه الإنسان الحبيب الطيب الذي يحدثك فلا تمل من حديثه، الإنسان الذكي اللماح، الإنسان الواعي المثقف....
تحدثنا كثيراً في مسائل تتعلق بالدين فكان المستمع الشغوف لأن يعرف أكثر، والمستفهم الذي يطمئن للجواب المقنع الصحيح...
تحدثنا كثيراً عن (فلسطين) واغتصاب الصاينة لها وكيف العمل على تخليصها من مغتصبيها، وتحقيق الأمل في عودتها سالمة عزيزة إلى أهلها وأن الأمر يحتاج إلى التقدير والتدبير، والعمل المتواصل في الليل والنهار، والسراء والضراء من كل عربي ومسلم، من كل شاب وشيخ وطفل من كل رجل وامرأة....
وفي كل يوم (جمعة) وهو يوم عمل في بيروت كما لا يخفى، كنا نتخذ نصف نهاره الأول، نتخذه عطلة لنا، فيهاتفني أو أهاتفه قبل (صلاة الجمعة) لنطمئن أننا أصبحنا مستعدين للصلاة، وفي يوم من أيام الجمعة ذهبنا لأداء الصلاة في الجامع (العمري) الكبير، ووصلنا الجامع ولم يكن (عمر) رحمه الله متوضئاً فتوضأ في مكان الوضوء في ذلك اليوم.....
***
إنني لا أنسى روحه الخفيفة، وظله اللطيف، وسرعة تذوقه للنكتة، وكشفه للمقالب التي قد تصادفه، وضحكاته العالية في مناسباتها والتي تهز من حوله، فتقلب السكون حركة، والهدوء والصمت صخباً وضجيجاً...
دعتنا شخصية بارزة مهمة إلى تناول طعام الغداء في مكان نزوله، وهو فندق من فنادق الدرجة الممتازة المشهورة في (بيروت).... وقال لنا (النادل): ماذا تشربون مع الطعام؟ فأجبنا: بيبسي كولا، فتدخل المضيف الداعي وصرف (النادل) وقال مخاطباً (عمر):...لا...لا لعلك خجلان من (زهير).... إنه (سبور)، فلا تخجل منه واطلب (ويسكي) إذا شئت أو غيره...
فقال عمرك لا...لا يا طويل العمر أنا أريد بيبسي؟
قلت للمضيف: سامحك الله يا سيدي من قال لك إنني (سبور)...
قال المضيف: كنت أمزح!
فقال عمر (سامحه الله): بإمكانك أن تطلب ما تشاء لنفسك يا طويل العمر!
فقال المضيف: لا.. لا... إنهم يعرفونني في الفندق!
قلت له: يا سبحان الله، تحسب حساب الجماعة في الفندق، ولا تحسب حساب من هو أكبر منهم!
قال المضيف: أستغفر الله وأتوب إليه... ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا... والآن ماذا تريدون أن تأكلوا؟
***
لقد أنجزنا النسخة العربية من الفيلم (الطريق إلى عرفات) وأعود وأكرر بأن معالي الوزير الشيخ (جميل الحجيلان) كان يراقب ويتابع كل خطوة من خطواته، بما في ذلك المؤثرات الصوتية، واختيار الموسيقى المرافقة لبعض المشاهد، وأذكر أننا تبادلنا الرأي في المادة الكلامية أو المؤثر المناسب لمشهد من المشاهد يظهر فيه الحجاج وهم يرفعون أكفهم بالدعاء إلى الله الرحيم الرحمن، ووجوههم خاشعة، وعيونهم دامعة، وقدمت اقتراحات متعدة مني ومن (عمر) رحمه الله ومن (مصطفى أبوغربية) ومن غيره، فلم تصادف هذه الاقتراحات قناعة لدى معالي الوزير، بل كان اقتراحه أن يرافق ذلك المشهد (ابتهال) يؤديه (طلال مداح) عليه رحمة الله، ويقول فيه الشاعر:
يارب إنك أنت الواحد الأحد
يارب إنك أنت المفرد الصمد
مالي سواك ومالي من ألوذ به
وليس غيرك يا ربي لي السند
وكان ذلك، وكان التطابق بين المشهد السينمائي السابق وهذا الابتهال تطابقاً مذهلاً رائعاً...
***
إنني حينما أسمي الشيخ (جميل الحجيلان)، وزير الإعلام العبقري الفذ فلا أنطلق من فراغ، فهذه الجزئية البسيطة التي أوردتها ليست هي ومثيلاتها الكثيرة إلا أمثلة واضحة تدل على حسّه المرهف، وأذنه الموسيقية الحساسة، وسبقه الإعلامي، وحضوره المميز الذي يجعل منه فناناً كبيراً، ومثقفاً موسوعياً، وإعلامياً عبقرياً...
لعلّ الكثير من الناس لا يعرفون أنّ معاليه هو الذي اختار اسم (البيت السعيد) للبرنامج الإذاعي اليومي الذي يخص المرأة ويعني بشؤون المنزل والزوج والأولاد وأنه هو الذي اختار له لحنه الموسيقي المميز...
وأكثر من ذلك فقد تدخل في كثير من الأسماء البرامج الإذاعية خاصة واختار لها الأسماء المناسبة وكذلك في ألحانها المميزة فاختار لها الألحان المناسبة...
وربما أوقف بضع الأصوات غير المناسبة عن تقديم بعض البرامج، وأوقف بعضها الآخر لتنال قسطاً أكبر من التدريب قبل عودتها مرة ثانية إلى الهواء.
أذكر في أحد الأيام بعد افتتاح (التلفزيون) بعد أشهر أن وجه الشيخ (جميل) متعه الله بالصحة والعافية بحضوري من المنزل لألتقي به في محطة (التلفزيون) بالرياض، فامتثلت وأسرعت إلى لقائه، وكان في ذلك اليوم قد قتل الصحافي اللبناني الكبير الأستاذ (كامل مروة) غيلة عليه رحمة الله، والأستاذ (كامل مروة) هو مؤسس جريدة (الحياة) ورئيس تحريرها في ذلك الوقت، وكان من رجال الإعلام المرموقين في تلك الأيام، الذين يقدرون للمملكة أدوارها الإيجابية المهمة على الصعيد العربي والإسلامي والعالمي..
قال لي الشيخ (جميل9): يا أخ زهير، سأكتب الآن تعليقاً (سياسياً) عن استشهاد الأستاذ (كامل مروة) يذاع هذه الليلة أولاً في (التلفزيون) بعد نشرة الأخبار الرئيسية وأريد أن تقرأه، فاستعد لذلك.... ثم يذاع من الإذاعة.
ودخل الشيخ (جميل) أحد المكاتب الخالية، لساعة وبعض الساعة، فأنجز كتابة التعليق، وأعطانيه وكان بعنوان (لماذا قتلوه؟!)....
كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف تقريباً، ونشرة أخبار التلفزيون موعدها الساعة التاسعة، وقد أخبرني معالي الوزير وهو يغادر محطة (التلفزيون) بقوله: أنا ذاهب الآن إلى مجلس جلالة الملك (الملك فيصل عليه رحمة الله)، وسأسمع التعليق بمعية جلالته من هناك....
وقد نفذت توجيهات معاليه، فقرأت ذلك التعليق على الصورة المطلوبة المرجوة بحمد الله..
إنّ تدخل معالي الشيخ (جميل الحجيلان) وزير الإعلام ذلك الوزير العبقري الفذ، كان في كل شيء يكون فيه لتدخله فائدة، ويكون فيه لرأيه أثر إيجابي، لقد رشح لي كثيراً من الشخصيات البارزة المهمة المؤثرة، لتتحدث في برنامج (مجالس الإيمان)، وشجعني على الالتقاء بها ودعوتها للمشاركة...
رشح لي الشيخ (عبدالعزيز بن حسن آل الشيخ) وزير المعارف الأسبق عليه رحمة الله، والشيخ (محمد علي الحركان) عليه رحمة الله وزير العدل الأسبق، والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الأسبق، وكان عندما رشحه رئيس المحكمة الكبرى في (جدة) والشيخ (عبدالله المسعري) رئيس ديوان المظالم الأسبق عليه رحمة الله، ورشح لي كذلك الشيخ (عبدالعزيز بن عبدالله بن باز) عليه رحمة الله وكان في حينها نائب رئيس الجامعة الإسلامية في (المدينة المنورة)...
ورشح لي كثيراً من أعضاء المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وقد تجاوب الكثير منهم وكانوا مبرزين ناجحين في مشاركاتهم منهم الأستاذ (أحمد محمد جمال) والدكتور (محمد ناصر) من (إندونيسيا والدكتور (سعيد رمضان) من (مصر) والشيخ (عبدالله القلقيلي) من (فلسطين) والأستاذ (علال الفاسي) من (المغرب) والشيخ (محمد الفاضل بن عاشور) من (تونس) والشيخ (أبو الحسن الندوي) من (الهند) والشيخ (صالح أوزجان) من (تركيا) والشيخ (سعدي ياسين) من (لبنان)....
وأكثر من ذلك فالشيخ (جميل الحجيلان) هو الذي سعى وراء الشيخ (علي الطنطاوي) عليه رحمة الله، وأوفدني إليه، فوفقني الله إلى إقناعه بالمشاركة في برنامج (مجالس الإيمان) ثم بإعداد وتقديم برنامجه الأسبوعي (نور وهداية) وبرنامجه الرمضاني اليومي (على مائدة الإفطار)، هذين البرنامجين اللذين لا يمكن أن ينساهما من شاهدهما على الإطلاق....
***
المهم أننا انتهينا من إنجاز النسخة العربية من فيلم (الطريق إلى عرفات) ثم بدأ (عمر الخطيب) عليه رحمة الله في العمل على إنجاز المشاركة في إعداد التعليق على النسخة الإنجليزية، ثم تبع ذلك إنجاز النسخة الفرنسية من هذا الفيلم الذي اعتبر في وقته عملاً مميزا بكل المقاييس...
***
عدت بعد ذلك إلى (الرياض)، وعاد (عمر الخطيب) عليه رحمة الله إلى (جدة)، وقد اختزن كل واحد منا للآخر من المشاعر الطيبة، والمودة الصادقة، ومن الذكريات الجميلة عن هذه الرحلة المشتركة الشيء الكثير..
وفي عام ألف وثلاث مائة وثمانية وثمانين الموافق لعام ألف وتسع مائة وثمانية وستين، حدث في إذاعة (الرياض) أن تمتع الزميل الأستاذ (خميس حسن سويدان) المراقب العام للبرامج بإجازة طويلة، ثم نقل بعدها إلى موقع آخر في وزارة الإعلام، وكلفت أنا بالقيام بعمله فسميت (مشرفاً عاماً على البرامج)، وبعد تكليفي بهذا العمل ولعدة شهور، صُحِحَتْ أوضاع الإذاعة الإدارية، فأصبحت جميع إداراتها وأقسامها تتبع مرجعاً واحداً لا أكثر، فصارت تسميتي (مشرفاً على إذاعة الرياض) وأصبح يتبعني بالإضافة إلى (البرامج) إدارات (الاستوديوهات) و(الصيانة) و(الأخبار) و(الترجمة والوكالات) و(الاستماع) و(البرنامج الأوروبي) الذي كان يتألف من قسمين؛ البرنامج الإنجليزي والبرنامج الفرنسي.
أما (عمر الخطيب) عليه رحمة الله، فقد طلبته في ذلك الوقت (وزارة الإعلام الأردنية) فعاد إلى (عمان) ليسهم في تأسيس (التلفزيون الأردني) وكلف بأن يكون (مديراً لبرامجه) في الوقت الذي كلف فيه الأستاذ (محمد كمال) بعمل (مدير التلفزيون الأردني).
عمل عمر الخطيب مدة في التلفزيون الأردني، ثم اتفق مع زميل له على إصدار جريدة يومية اسمها (الأخبار) على ما أظن، وبعد مدة من صدور هذه الجريدة رأى عمر عليه رحمة الله أن يكمل دراساته العليا في مرحلتي (الماجستير) و (الدكتوراه) واستغرق ذلك عدة سنوات عاد بعدها ليدرس مادة (الإعلام) في الجامعة الأردنية، وبعد ذلك عاد الدكتور عمر الخطيب إلى المملكة ليدرس مادة الإعلام في هذا القسم من جامعة الملك سعود واستمر في هذا العمل عدداً من السنوات، وعلى الرغم من أنني لم أستمع إليه وهو يحاضر في هذه المادة لكنني أحسبه مدرساً ناجحاً متفوقاً فيها، لا سيما وأنه يجمع في هذه المادة بين التفوق في الجانب النظري العلمي والتفوق في جانب الممارسة العملية والخبرة الإدارية من خلال الأعمال التي قام بها في إذاعة عمان وتلفزيون أبو ظبي وإذاعة جدة وتلفزيون المملكة ثم تلفزيون المملكة الأردنية الهاشمية ثم الصحافة اليومية.
وفي هذه الفترة بدأ في إنتاج برنامجه (بنك المعلومات) من التلفزيون السعودي.
لقد كانت فكرة البرنامج فكرة جديدة بكل معنى الكلمة في منطقتنا على الأقل، وقد استطاع الدكتور عمر الخطيب عليه رحمة الله أن يجعل من هذا البرنامج مثابة ثقافية شاملة يستفيد منها كل شرائح الناس، وأفاد من معطياته لخدمة اللغة العربية شعراً ونثراً وبياناً وبلاغة، ولخدمة التاريخ الإسلامي ومواقعه المهمة البارزة وأبطاله الغر الميامين، وأفاد من معطياته كذلك لتسليط الأضواء على الأقطار العربية ومدنها المختلفة وحدودها ومساحاتها وعدد سكان كل منها، دون أن ينسى ما تعطيه المعارف والعلوم والمكتشفات الحديثة من معلومات ونتائج وحقائق، كل ذلك يقدمه عمر رحمه الله بأسلوب الإنسان المتمكن الواثق بنفسه الحريص على أن يكون مع المتسابق في البرنامج وأن يكون المتسابق معه بحيث تتسمر وأنت تتابع الحلقة من حلقاته منذ بدايتها وحتى تعلن الشارة ختامها، وبلغة عربية واضحة صحيحة، ولغة إنجليزية إذا لزم الأمر لا تنقصها الصحة والدقة والوضوح.
لقد كان عمر الخطيب يرحمه الله يستعين بأهم المصادر وأوثقها وأصدقها عند إعداده لمواد برنامجه (بنك المعلومات) وأذكر أنه كان يفتش عن كتاب من الكتب التاريخية المهمة في التاريخ الإسلامي، ليستوثق من بعض المعلومات التاريخية في فترة الحروب الصليبية، وهذا الكتاب المرجع هو كتاب (الكامل في التاريخ) لابن الأثير، فأعرته رحمه الله في سبيل ذلك المجلد الحادي عشر من هذا الكتاب، ولم يرده إلي حتى الآن!
كما أنني أعرت في يوم من الأيام أحد أجزاء كتاب (المغني والشرح الكبير) في الفقه لصديقي الأستاذ قصي العزاوي مدير عام الشؤون القانونية السابق في الحرس الوطني ولم يرده إلي حتى الآن.
على كل حال لقد لفت برنامج بنك المعلومات نظر أكثر الناس وكنت تلحظ أنه في الوقت الذي كان يعرض فيه بالتلفزيون يحدث لدى الناس والمارة عموماً نوع من عدم الحركة أو التجول، فلا حركة إذ إن الناس في بيوتهم أو في متاجرهم ساكنون متابعون متعلقون بشاشات التلفزيون، سائرون مع وقائع (بنك المعلومات) أولاً بأول.
لقد حدثني ضابط من ضباط المخابرات الكبار في إحدى الدول العربية تجمعني به صداقة ومعرفة منذ نعومة الأظفار بأنه لم تكن تفوته حلقة من حلقات برنامج (بنك المعلومات)، وأن اسم هذا البرنامج ينطبق على مسماه، وأن المعلومات التي يتضمنها يحتاجها كل إنسان، وأنه يحرص على متابعته دائماً فإذا انشغل في أمر مهم أو اجتماع طارئ كلف أحد مساعديه بتسجيل الحلقة التي تفوته في أثناء عرضها ليتمكن من الاستماع إليها ومشاهدتها في وقت لاحق، ووصف هذا الضابط الأخ الدكتور عمر الخطيب عليه رحمة الله بأنه عبقري زمانه!
وأظن أن من المكاسب الباهرة التي كسبتها إدارة راديو وتلفزيون العرب استيلاءها على إنتاج برنامج بنك المعلومات لعدد من السنوات، وحلت بذلك محل التلفزيون السعودي الذي بدأ هذا البرامج العظيم منه، ولا أزال أنا والكثيرون غيري يذكر الحلقات الرائعة الجميلة التي أنتجها الدكتور عمر الخطيب عليه رحمة الله في مسارح القاهرة وعمان ومسقط وغيرها وشارك فيها عدد كبير من الناس من الرجال والنساء بينهم أستاذ الجامعة والطبيب والمهندس، والباحث في اللغة العربية أو الشريعة أو القانون أو المتخصص في الرياضيات وعلم الحاسوب وإدارة الأعمال وغيرها، ولا نزال نعيش نشوة الاستمتاع بها وثمرة الاستفادة منها والتسلي والتفكر في حل ألغازها وألعابها، وبعبارة ثانية أستطيع أن أقول: إنه يصعب أن يحل إنسان آخر محل عمر الخطيب عليه رحمة الله في إنتاج هذا البرنامج، قدرة وثقافة وحيوية وحضوراً وتألقاً وجاذبية، وأتساءل هنا بكل بساطة: هل حل أحد محل الشيخ محمد رفعت عليه رحمة الله؟ وهل حل أحد محل محمد عبدالوهاب رحمه الله؟ وهل حل أحد محل أم كلثوم رحمها الله؟ وهل حل أحد محل أحمد شوقي ومحمد الجواهري وبدوي الجبل، وعمر أبي ريشة يرحمهما الله؟ وهل سيحل أحد محل صباح فخري؟ أمده الله بالصحة والعافية والعمر الطويل.
لقد نال برنامجي البرنامج التلفزيوني مجالس الإيمان الجائزة الأولى على جميع البرامج الدينية في المهرجان الأول لبرامج التلفزيون العربية الذي انعقد في دولة الكويت عام ألف وتسع مائة وثمانين للميلاد.
ونال هذا البرامج شهادة أخرى وتقديراً آخر من أخي الدكتور عمر الخطيب عليه رحمة الله، فقد استضافه الزميل الأستاذ (سبأ باهبري) في برنامجه الأسبوعي الذي كان يقدمه للتلفزيون قبل عدة سنوات ويستضيف في كل حلقة منه واحداً من رجال الفكر أو الأدب أو السياسة أو الإعلام أو غيره.. لقد سأل الأستاذ سبأ الدكتور عمر الخطيب عليه رحمة الله: ما هو أحس برنامج قدمه التلفزيون السعودي خلال سنواته الماضية، فأجاب عليه رحمة الله: إنه برنامج (مجالس الإيمان) وهذه شهادة كبيرة جداً يفتخر بها مجالس الإيمان شهادة من إعلامي عربي عظيم يندر أن يجود الزمان بمثله.
ولقد سعد هذا البرنامج في استضافة الدكتور عمر الخطيب عليه رحمة الله وكان معه في حلقتين متواليتين إعلامي إسلامي كبير هو الأستاذ زين العابدين الركابي وأستاذ أزهري يدرس الإعلام هو الدكتور عمارة نجيب، وقد دار البحث في هاتين الحلقتين حول أهمية وسائل الاعلام، وأهمية الاستفادة منها في خدمة الدعوة الإسلامية.
لقد استطاع الدكتور عمر عليه رحمة الله من خلال دراساته النظرية الإعلامية، وممارساته العملية في مجال الإذاعة والتلفزيون والصحافة.
واستطاع الأستاذ الركابي أمده الله بالصحة والعافية والعمر الطويل من خلال نظرته الإسلامية للإعلام وممارساته العملية الصحفية.
واستطاع كذلك الدكتور عمارة نجيب متعه الله بالصحة والسعادة من خلال دراساته الإسلامية، واجتهاداته في الإعلام.
استطاعوا أن يخدموا الموضوع المطروح للنقاش، استطاعوا أن ينقلوا إلى المشاهد نظرتهم لقضية الإعلام ورؤيتهم المتقدمة للدور المهم الذي يمكن أن تلعبه وسائله المختلفة حينما توظف في خدمة الإسلام والمسلمين بعد انطلاقها من فكر إسلامي نير، وقيامها على نظرية إعلامية إسلامية صحيحة.
وفي الوقت الذي كان يدرس فيه الدكتور عمر الخطيب عليه رحمة الله مادة الإعلام في جامعة الملك سعود دعانا أخي الدكتور زياد وزير الأوقاف السابق في سورية دعانا إلى منزله في حي البديعة، حيث كان يدرس في تلك الأيام مادة التاريخ الإسلامي في معهد الرياض العلمي، دعانا إلى عشاء وسهرة من بعده، وكان المدعوون هم: الدكتور عمر الخطيب والأستاذ منذر النفوري والأستاذ إبراهيم الذهبي عليهم رحمات الله، وكنت أنا وأخي صلاح الدين من بين المدعوين.
أكلنا، ثم تفكهنا، ثم شربنا الشاي، وقد بدأنا أطراف الحديث، وتبادلنا أحاديث كثير من الذكريات، وإذا بالأخ الدكتور عمر الخطيب عليه رحمة الله يبدأ بالدندنة لبعض الأغاني والأهازيج الشعبية الأردنية الشامية، فما كان منا جميعنا إلا أن رددنا معه ووراءه الأغاني والأهازيج التي كانت تصدر عنه، واستمر ذلك الغناء الجماعي الذي قاده عمر الخطيب ساعة أو أكثر من ساعة، ومن حسن الحظ أن أخي الدكتور زياد قد بادر إلى تسجيل ذلك الحفل الغنائي التاريخي، وهو يحتفظ بهذه النسخة الوحيدة لتسجيله.
وفي أول أيام عيد الأضحى المبارك الماضي اتصل بي بالهاتف الزميل الأردني الأستاذ (محمود أبو عبيد) اتصل بي بارك الله فيه مهنئاً, ومن عادة الزميل محمود أن يسارع دائماً بالاتصال في مثل هذه المناسبات السعيدة، وقد تطرقنا في تلك المكالمة إلى وفاة زميلنا الكبير الدكتور عمر الخطيب وذكرياتنا معه، وما أحدثه غيابه على الساحة الإعلامية من فراغ، وأنه وكثيرين غيره اطلعوا على مقال الدكتور عبدالرحمن الشبيلي الذي نشرته جريدة الشرق الأوسط وقال فيه إنه يعتبر الدكتور عمر الخطيب عليه رحمة الله الإعلامي الأول في العالم، وأعجبوا بهذا المقال، وأعجبوا بهذا التقدير من الدكتور الشبيلي للدكتور عمر الخطيب عليه رحمة الله.
ونمت تلك الليلة، ورأيت فيما يرى النائم، رأيتني في جمع من الناس من بينهم الأستاذ محمود أبو عبيد ونحن في قرية من القرى فيها أشجار، وفيها ساحة فسيحة كبيرة، وإذا بالدكتور عمر عليه رحمة الله ينطلق من بيننا على متن دراجة نارية، فألحق به أنا وزميلي أبو عبيد، فنصل إلى قاعدة في الدور الأرضي من فندق من الدرجة الممتازة (خمس نجوم) كان الدكتور عمر عليه رحمة الله قد سبقنا إليه، فتحدثنا معه وكان على عجلة من أمره، فتركنا وتوجه إلى درج (سلم) وبدأ يصعده متوجهاً إلى طبقات الفندق العليا المؤلفة من خمس طبقات وانتهت الرؤيا عند هذا المشهد.
وبعد:
فقد كان الدكتور عمر الخطيب شيئاً مهماً جداً في عالم الإعلام العربي وخاصة في ميدان الإذاعة وميدان التلفزيون، ولقد حقق من خلال دراسته للإعلام وتدريسه له سواء في الجامعة الأردنية أو في جامعة الملك سعود وممارسته للعمل الإعلامي في ميدان الإذاعة وفي ميدان الصحافة وفي ميدان التلفزيون الشيء الكثير.
ولقد حاز قصب السبق وميزة الريادة وصفة التفوق الأعلى من خلال برنامجه التلفزيون (بنك المعلومات) فاستطاع أن يمتع المشاهد ويفيده ويسليه، ويحرك فيه كل مكامن البحث والتفكير والعطاء في وقت واحد.
لقد استطاع أن يخدم لغته العريبة، وتاريخه الإسلامي، ويشيد بأمجاد الأمة، ويركز على معطيات الوطن، ويظهر مفاتنه، ويبين أهمية التعرف عليه، والاطلاع على ما فيه من كنوز وخيرات وميزات وقدرات فنال بذلك درجة الامتياز ومرتبة الشرف الأولى.
لهذا كله فإن مصابنا بفقدك يا عمر مصاب كبير ومع اعتقادنا بأن تعويض مثلك شيء نادر عزيز صعيب، لكن الله سبحانه وهو العلي القدير الكبير العظيم، لا يعجزه شيء، وهو وحده القادر جل جلاله على أن يجعل في أهلك وفي أحبابك الكثيرين، وفي تلامذتك الذين يذرعون مشارق العالم العربي ومغاربه، وأن يجعل فيهم من يحمل علم الإعلام العبقري الهادف البناء من بعدك، أن يحمله عالياً سامقاً شامخاً رائداً فيجدد فيه متعة وفائدة وتعليماً وتربية، ونماء وبناء وارتقاء.
فيا (أم اسماعيل) زوجة عمر الخطيب الأولى، ويا بناتها الكريمات.
ويا (أم عزام) زوجته الثانية،
ويا (عزام)
ويا (بقية إخوته)
أنتم بقية عمر الخطيب رحمه الله، وأنتم موضع أسراره وأنتم المطالبون بالدرجة الأولى بالمحافظة على إرثه الإعلامي المميز، وسبقه المهني الرائد.
فأرونا من أعمالكم وجهودكم وعطائكم ما يسر الخاطر، ويقر العين، ويدخل السكينة والطمأنينة إلى قلوب محبي (عمر الخطيب) عليه رحمة الله.
ويا مولاي
يا رب العالمين، ويا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين تقبل عبدك عمر الخطيب، تقبله في الصالحين، تقبله عندك، واقبله في فراديسك، وأكرمه بفضلك وعطائك، ومنّ عليه بمغفرتك ورحمتك ورضاك.
أنت أهل التقوى وأهل المغفرة. وأنت الرحيم الرحمن
للاتصال وإبداء الرأي:
الأربعاء 21 محرم 1429هـ.
z-alayoubi@hotmail.com