Al Jazirah NewsPaper Sunday  10/02/2008 G Issue 12918
الأحد 03 صفر 1429   العدد  12918
فقدنا بوفاتك عضداً كنا نشد به الأزر
د. محمد بن عبدالله آل زلفة

اللهم لا اعتراض على قضائك وقدرك، اللهم إنك تعلم أن إيماننا مطلق بأنك وحدك الحي، وأن كل من خلقت مصيره الموت، وأنك وحدك الباقي الذي لا يموت، ولكنها طبيعة النفس البشرية تظن في لحظات غفلة وهي في غمرة سعادتها بالعيش مع من تحب أنها لن تفقده ذات يوم، وربما كانت هذه إحدى نعم الله على الإنسان ألا يجعله مشغولاً في التفكير دائماً بفراق من يحبه، بل يمنحه الاستمتاع بكل لحظة حب من يحب، لأن الإنسان يسعد ويحيا بالحب، وبغير ذلك لا يعرف معنى الحياة ولا قيمتها.

لكن لحظة فراق المحب، خاصة ذلك الفراق الذي لا اجتماع بعده في هذه الحياة صعبة جداً، بل عصيبة للغاية ومخيفة، وتكون هذه اللحظة أصعب إذا كان الحبيب الذي فقدناه هو الأخ، وهو العضد الذي كنت وإخوتي وأخواتي وأبنائي وبناتي وأبناء اخوتي وأخواتي بل كل من يمت إلى أسرتنا بصلة عضداً لنا جميعاً، فلم يكن أخاً عادياً، بل كان شيئاً مختلفاً كل الاختلاف، فلقد كان لنا السند، والعضد الذي كنا جميعاً نشد به أزرنا، والخيمة الواقية التي نستظل بها كلما حاولت الشمس أن تتسلل لتلسعنا بحرارتها أو زمهرير البرودة إن حاول أن ينال المفاصل منا.

كنا ونحن صغاراً نفتعل خصومات طفولية مع أقراننا من أبناء حاراتنا المجاورة في قريتنا الجميلة لنحظى بتدخله لحمايتنا، كان ثابت الذي فقدناه يمثل هيبة حقيقية لردع المعتدي علينا ممن يكبرنا سناً من الأطراف الأخرى. لم يكن في حياته يحب أن يكون المعتدي، ولكن كانت له هيبة، وكما يقال لا يداس له على طرف، وظل كذلك إلى حين وفاته، وإضافة إلى ما كان يتحلى به من مواصفات الشجاعة والكرم والنخوة والتضحية وحدة الذكاء كان رقيق الطبع سريع الدمعة أمام المواقف الإنسانية التي يجد نفسه عاجزاً عن عمل شيء تجاهها.

قبل اثنتين وخمسين سنة غادر قريتنا إلى الرياض وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، والتحق في أول مشواره مع الحياة الوظيفية بوظيفة جندي في شرطة الرياض، وذلك عام 1378هـ. وبما أنه يعرف القراءة والكتابة - وهي حصيلة دراسة سنة ونصف السنة في مدرسة أحد رفيدة الابتدائية التي أقفلت أبوابها، وكان أحد ضحايا هذا الإقفال لعدة سنوات قبل أن تستأنف من جديد - فقد عين بوظيفة جندي كاتب في المنطقة السابعة في حي الملز، أو البحر الأحمر كما كان يعرف حينذاك، ومقرها أحد مباني مستشفى قوى الأمن الحالي. كان راتبه لا يتجاوز المائة والخمسين ريالاً. كان بطبيعته مضيافاً كريماً سخياً يستقبل كل واحد من أبناء قريته والقرى المجاورة.

قدمت إلى الرياض في أواخر عام 1380هـ - 1960م، فكان بالنسبة لي الأخ والسند والصديق والموجه، وأنا في حوالي السادسة عشرة من عمري، تعلمت منه صبره وجلده وتضحيته، وبذل كل مستحيل من أجل رعايتي. كان قدومي إلى الرياض حوالي منتصف العام الدراسي، فأدخلني مدرسة ليلية تابعة لوزارة الدفاع في حي الضباط، فاقترحت عليه لماذا لا يستأنف دراسته الليلية بنفس المدرسة، فوافق فوراً، وأكمل دراسته الابتدائية، ثم المتوسطة اختصرها في سنة واحدة لما يتمتع به - رحمه الله - من حدة الذكاء وكان النظام مرناً يسمح لمن هو قادر على اختصار المراحل. ثم أكمل دراسته الثانوية، وترقى في الوظيفة وأصبح محاسباً. كان طموحاً لمواصلة تعليمه الجامعي، وتمكن من ذلك حين التحق بجامعة الملك سعود، وحصل على البكالوريوس في الآثار، وكان من عداد أول دفعة من ذلك القسم.

افترقنا عدة مرات بأجسادنا، ولكن بأرواحنا ومشاعرنا لم تفترق. عشت في المنطقة الشرقية طوال أربع سنوات وما كانت تمر فترة قصيرة إلا ويأتي ليتفقد أحوالي ويطمئن على راحتي، وما كان يمر شهر إلا وآتي لزيارته بالرياض.

عدت إلى الرياض وعشنا مع بعض من جديد، تزوج وفتح بيتاً وكان بيته مفتوحاً لكل وافد يعرفه أو لا يعرفه، وكل من لا قريب له في الرياض فثابت قريبه، وبيته مقره يساعد الباحث عن العمل حتى يجد له عملاً ويساعد المريض الذي يقدم للعلاج حتى يشفى ويرفد القادم لطلب الرفدة في بيته الصغير في مساحته، الكبير بضخامة زواره وبسعة صدر صاحبه الكائن في حي وزارة الدفاع. اجتمعنا الاخوة الأربعة هو - رحمه الله - وأخي علي، وأخي حسين، وأنا بزوجاتنا نعيش في ذلك البيت الصغير الكبير جداً بكبر قامة صاحبه وما كانت تمر فترة إلا وينضم إلينا وافد جديد بزوجته إلى حين يجد بيتاً ويستقر، ويكون العون الأول له بعد الله ثابت صاحب ذلك القلب الكبير الذي لم نر منه لحظة تذمر، وفي نهاية كل أسبوع يجتمع في بيته الكثير من أبناء قريته بزوجاتهم وأولادهم يكرمهم ويحترمهم، ويسألهم عن أحوالهم.

ومن فضل الله عليه - لأنه يحبه - أن رزقه بزوجة صالحة ابنة رجل كريم تحب الضيف كما يحبه زوجها وتقدر أقرباءه وأصدقاءه وجماعته وكأن الاثنين خلقا من طينة واحدة ربط بينهما رابط حب رباني صادق ولكن لم يرزق منها بولد مع أنها حملت أكثر من ست مرات، وبذل كل الوسائل، وعرضها على أمهر الأطباء لمنع حالات الإسقاط لكن لم تنجح المحاولات، فطلبت منه تلك المرأة الصالحة - أسأل الله أن يعصم قلبها بالصبر في وفاته، وأن يجمع بينهما في الجنة، كما جمع بينهما رابط حب صادق في الدنيا طوال حياتهما الزوجية أن يتزوج بأخرى.

طلبت منه مراراً وتكراراً أن يتزوج لأنها كانت تعرف منه حبه للولد لكنه تمسك برأيه فترة طويلة من الزمن، قبل أن يتزوج من أخرى وما ان رزقت بابني خالد ونحن نعيش معاً في ذلك البيت الصغير الذي يملؤه الحب الكبير من ذلك الرجل الكبير وزوجته الصالحة حتى صار وزوجته أباً وأماً له أكثر مني ومن أمه.

فكان يعرض عن طلبها، ويقول لها نقبل ما أراده الله وباستمرار إلحاحها تزوج من أسرة عريقة في كرمها ونبلها، فكانت تلك الزوجة الجديدة مثالاً حياً للنبل والأصالة، ورفضت أن تسكن في بيت منفصل عن بيت الزوجة السابقة، وعاشا معاً أفضل مما تعيشه الابنة مع أمها، أو الأخت مع أختها، وأصبحا مثلاً لما بينهما من المحبة والمودة يسكنان سوياً، ويسافران سوياً ويلبيان الدعوات سوياً، وترفض الأخرى أن تذهب إلى بيت أهلها في أي مناسبة دون أن تكون معها الأخرى. كل هذا لأن الله علم بصدق نية ذلك الرجل الصالح العادل. رزق - رحمه الله - من زوجته الجديدة بخمسة أولاد هم الدكتور عبد الله طبيب أطفال بالحرس الوطني، والدكتور سعد طبيب جراحة بمستشفى القوات المسلحة، والمهندس محمد، وحسان في الجامعة، وحسين في الثانوية العامة، وابنتين هما ظبية تخرجت من جامعة الملك سعود تخصص رياضيات، ونوف من نفس الجامعة تخصص علم حيوان، هؤلاء الأبناء ورثوا الذكاء الخارق من والدهم - رحمه الله -، فكانوا دائماً من المتفوقين، ولقد استثمر كل ما يملك في تربية أبنائه وتعليمهم، وكانت أمنيته أن يرى الطبيبين عبد الله وسعدا، وقد أكملا تخصصهما في جامعات أجنبية، ولو كلفه ذلك بيع منزله. أما الزوجة الصالحة الأولى فبعد سنوات من الصبر والاحتساب والاستسلام بنفس راضية بقضاء الله وقدره حملت بعد سنوات من الانتظار، وحملت معها مخاوفها من المصير الذي مرت به خلال محاولات حملها السابقة، ولكن إرادة الله، ومهارة طبيب من دولة اسكندنافية كان يعمل في مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة الجنوبية، وبإشراف دقيق ومباشر من ذلك الطبيب تجاوزت الشهر الذي كان يحدث فيه الإسقاط، ورُزقت بولد هو ولدها الوحيد، واسماه والده فهد، وهو الآن ملازم بالأمن العام، وكانت سعادتنا جميعا بفهد غامرة محبة لوالدته التي انتظرته طويلا بصبر المؤمن الذي لم يقطع الرجاء فيما عند الله القائل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.

لم تمت يا أبا عبد الله؛ وقد خلفت وراءك ذرية صالحة يدعون لك، عاملين نافعين لبلادهم ومجتمعهم، وخلفت بعدك إخوة وأخوات يعترفون بفضلك، وجماعة أسديت لهم حق القرابة، وأصدقاء، وجيران، وأرحام كنت وفياً مع الجار بما يفرضه حق الجوار، ومع الأصدقاء بما تفرضه الصداقة، ومع الأرحام طبقت ما أمر الله به من صلة الأرحام. ليتك رأيتهم يوم شيعوك؛ لقد جاؤوا بالآلاف من كل أرجاء الرياض، بل ومن كل مناطق المملكة ولسان حالهم يقول: وداعاً يا أبا عبد الله، وموعدنا معك الجنة - بحول الله وقوته - فلقد كنت وفياً صادقاً معهم جميعاً.

أما في خلال أيام عزائك فلقد امتلأت أرجاء بيتك في الرياض بأعداد المعزين، وكلهم يدعون لك بالمغفرة، زرعت شجرة الوفاء والصدق والمحبة فأتت ثمارها ممثلة في ذلك السيل الدافق من الدعاء بأن يجعلك في عداد الشهداء والصديقين.

أما في القرية التي شهدت ولادتك، ونشأت، وترعرعت، وعشت بعضا من عمرك فيها. فلقد كان عزاؤك من الأيام المشهودة، وتوافد على مقر العزاء الآلاف من كل أرجاء عسير، منهم من نعرف، ومنهم من لا نعرف، ولكنهم كلهم كانوا يثنون عليك وارتفعت أصواتهم تدعو الله لك وتطلب لك الرحمة والمغفرة.

لم أكن يوما أعتقد أنني سأشهد فراقك الأبدي يا أبا عبد الله، مع إيماني بأن لكل أجل كتابا، بل ما كنت أتصور يوماً بأنني سأشهد لحظة وفاتك مع ما بكل ذلك الموقف من رهبة. فلقد غبت عنا قبل لحظة الوفاة حوالي أسبوع، وأنت لا تدري ولا تحس بوجودنا، كان حولك كل إخوتك الأربعة وأبنائهم الذين يحبونك جميعاً. كنت في حالة غيبوبة كاملة، لا يتحرك منك شيء، وفجأة وفي اللحظة الأخيرة، وفي حالة ذهولنا جميعاً رفعت سبابتك اليمنى إلى السماء لتعلن لحظة مغادرتك هذه الدنيا الفانية، وتشهد أن لا إله إلا الله الذي اختار لك أن تكون إلى جواره، ولبى طلبك الذي كنت تطلبه قبل ثلاثة أسابيع من وفاتك أن يكون يوم وفاتك يوم جمعة؛ فلقد لبى الله طلبك، وصلى عليك آلاف من المصلين في مسجد هو الأكبر - على حد علمي - في مدينة الرياض، وهو من أفضل أعمال الخير عند الله لصاحبه، نسأل الله أن يجمعنا بك ومع من تحب في جنة الخلد يا أبا عبد الله.

كلمة شكر

شاركنا العزاء في فقيدنا الكثير من الأحبة والأصدقاء والأهل أهلنا وأحبتنا في هذا الوطن الحبيب بالزيارة والمهاتفة والفاكسات، فلهم منا الشكر والعرفان لهم بالجميل، داعين الله سبحانه أن يجزيهم عن فقيدنا وعنا خير الجزاء، وألا يريهم مكروها. وإنه لمن الصعب أن نعدد أسماء كل أولئك الأوفياء، فالشكر أجزله لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير الرياض الذي اتصل بالهاتف في الصباح الباكر من يوم الجمعة الذي مات فيه فقيدنا معزياً، وكان سموه يعتقد أن وفاته في الجنوب، وعندما علم بأن وفاته كانت في الرياض جاء بصحبة أبنائه أصحاب السمو الكرام لتقديم العزاء والمواساة لنا في منزل الفقيد. والشكر موصول إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن خالد بن عبد العزيز أمير منطقة عسير الذي جاء إلى قريتنا قرية المراغة بمحافظة أحد رفيدة لمواساتنا في فقيدنا، والشكر كذلك لصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة الذي اتصل هاتفياً ساعة بلوغه خبر وفاة الفقيد مواسياً ومعزياً.

والشكر لأصحاب السمو، وأصحاب المعالي الوزراء، وأصحاب الفضيلة العلماء، والزملاء في مجلس الشورى رئيسا ونوابا وأعضاء الذين أكرمونا بزيارتهم أو اتصالاتهم أو برقياتهم. والشكر كذلك للاخوة الأطباء من منسوبي كلية الطب في جامعة الملك سعود ومنسوبي مستشفيات الحرس الوطني والقوات المسلحة، ومستشفى الملك فيصل التخصصي الذي وقفوا معنا منذ بداية مرض الفقيد ثم مواساتهم لنا بعد وفاته. كما نقدم الشكر لمشائخ القبائل من كل أنحاء المملكة، وإلى الإخوة المثقفين والمثقفات، ورؤساء تحرير الصحف والإعلاميين الذين غمرونا بلطفهم واتصالاتهم. سائلين الله مرات ومرات أن يجزيهم خير الجزاء، وأن يمن علينا جميعا برحمته ورضوانه.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد