Al Jazirah NewsPaper Friday  15/02/2008 G Issue 12923
الجمعة 08 صفر 1429   العدد  12923

نوازع
باب الواشي
محمد بن عبد الرحمن البشر

 

كتب العلامة علي بن حزم كتبا كثيرة منها كتاب المحلى، وهو أشهر كتبه، وطوق الحمامة، وهو أعذب كتبه، وهناك رسائل جميلة سطرها قلمه، وحوت تلك الرسائل باباً سماه باب الواشي، والوشاة كثيرون أعاذنا الله جميعا منهم، ومن حبائلهم، ومن مكائدهم، والواشي لا ينال من وشايته منفعة، إنما هي جبلة زرعت فيه، ويتمتع من خلالها بإيذاء الآخرين، بباطل جلّه، وحق أقلّه، حتى وإن كان الموشى به لديه من المبررات ما يستحيل البوح بها، فيمسك على مضض، ويحمل الحمل الكبير انطلاقا من نبل أخلاقه ويؤثر الطعان على إطلاق اللسان.

ودعونا نترك وشاة هذا الزمان، لنتحدث عن وشاة الهيام، فذكر ابن حزم أن الواشي ربما يريد القطع بين المتحابين فقط، وهذا هو السم الزعاف، والصاب الممقر، والحتف القاصد، والبلاء الوارد، وأكثر ما تكون الوشاية إلى المحبوب وليس المحب، فانشغاله بهيامه بمحبوبته يحول دون الالتفات إلى حديث الواشي ووشايته، وينطبق عليه المثل، حال الجريض دون القريض، وهو مثل قاله عبيد بن الأبرص حين سئل وهو مترقب الموت أن يقول شعراً، فقال المثل المذكور، ويقصد أن غصة الموت (وهي معنى الجريض) حالت دون قوله الشعر (القريض).

ويحاول الواشي كما يذكر ابن حزم أن يستخدم بعض المكائد لإفساد الحب بين المتحابين مثل أن يذكر للمحبوب أن المحب غير كاتم للسر، أو أن ما يظهره المحب من المحبة ليس بصحيح، وأن غرضه من إظهار الحب شفاء نفسه، وبلوغ وطره، ومن تلك المكائد أن ينقل الواشي أن هوى المحب مشترك، وهذه المكيدة هي النار المحرقة والوجع الفاشي في الأعضاء، وإذا كان المحب فتى حسن الوجه حلو الحركات، مرغوباً فيه مائلا إلى الحب، دنياوي الطبع، والمحبوب امرأة جليلة القدر فأقرب الأشياء سعيها في إهلاكه وتصديها لحتفه، وهذه كانت ميتة مروان بن أحمد بن حدير، من قبل جاريته قطر الندى، وفي ذلك قال ابن حزم شعراً:

وهل يأمن النسوان غير مغفل

جهول لأسباب الردى متعرض

وكم وارد حوضاً من الموت أسود

ترشفه من طيب الطعم أبيض

ومن الوشاة من يسعى للقطع بين المحبين ليتفرد بالمحبوب ويستأثر به، وهذا أشد شيء وأفظعه، وأجزم لاجتهاد الواشي واستفادته بجهده. ومن الوشاة جنس ثالث، وهو واش يسعى بها جميعاً ويكشف سرهما، وهذا لا يلتفت إليه وقال ابن حزم في ذلك:

عجبت لواشٍ ظل يكشف أمرنا

وما بسوى أخبارنا يتنفس

وماذا عليه من عنائي ولوعتي

أنا آكل الرمان والولد تضرس

وما في جميع الناس أشر من الوشاة وهم النمامون، وإن النميمة لطبع يدل على نتن الأصل ورداءة الفرع، وفسادِ الطبعِ، وخُبثِ النشأة، ولا بدَّ لصاحبه من الكذب، والنميمة فرع من فروع الكذب ونوع من أنواعه، وكل نمام كذاب.

وقد قال بعض الحكماء: آخ من شئت واجتنب ثلاثة: الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك، والملولَ فإنه أوثق ما تكون به لطول الصحبة وتأكدها يخذلك، والكذاب فإنه يجني عليك آمن ما كنت فيه من حيثُ لا تشعر.

وروى أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، إني استهترُ بثلاث: الخمر والزنى والكذب. فمرني أيها أترك، قال: اترك الكذب. فذهب عنه. ثم أراد الزنى ففكر فقال: آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألني: أزنيت فإن قلت: نعم، حدَّني، وإن قلت: لا، نقضتُ العهد، فتركه. ثم كذلك في الخمر. فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني تركت الجميع.

فالكذب أصل كلِّ فاحشة، وجامعُ كلِّ سوء، وجالبٌ لمقت الله عز وجل، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كلُّ الخلالِ يطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كنَّ فيه كان منافقاً: من إذا وعد أخلف، وإذا حدَّثَ كذب، وإذا أؤتمن خان).

والله عز وجل يقول: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}، ويقول جلَّ من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فسمى النقل باسم الفسوق، ويقول: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يدخل الجنة قتات)، ويقول: (وإياكم وقاتل الثلاثة) يعني المنقَّل والمنقول إليه والمنقول عنه. والأحنف يقول: (الثقة لا يبلَّغ) وحُقَّ لذي الوجهين ألا يكون عند الله وجيها؛ وهو ما يجعله من أخسّ الطبائع وأرذلها.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد