لبنان بلد ضئيل المساحة، لكنه بلد متعدد في خريطته الاجتماعية والسياسية، فهو بلد طائفي وكثير من الطوائف المشكِّلة لساحته لديها امتدادات خارجية توفر لها لونا من الحماية إبان حالات الانقسام الداخلي. لبنان دائما يكون محط اهتمام الدول ولاسيما من المجموعة الأوروبية والغربية، وكثيراً ما يجري التفاوض بشأن لبنان خارج أراضي لبنان ومن قِبَل قوى خارجية كأمريكا وفرنسا وسورية وإيران التي تتفانى في سبيل دعم حزب الله، ومده بضروب التقنية المادية، وألوان الأسلحة،لتوسيع إطار دوره السياسي في لبنان من جهة

وكوسيلة لعرقلة المشروع الأمريكي للشرق الأوسط من ناحية أخرى. طبيعة تركيبة النظام الطائفي، والتعدد السياسي، وتباين المكونات الاجتماعية، هي ما يجعل التأثير في المسار اللبناني يجري من قبل الخارج على نحو أحال لبنان إلى كلأ مشاع لكل ضروب الاستخدام السياسي والاقتصادي والأمني؛ حالة الغليان في المشهد السياسي في لبنان تتضاعف، والوضع يؤذن بكوارث عميقة الخطورة، في ظل التناحر السياسي القائم بين الفرقاء، وكنتيجة طبيعية للفراغ الدستوري الذي استمر منذ مغادرة اميل لحود القصر الجمهوري قصر بعبدا في الرابع والعشرين من تشرين الثاني؛ أزمة الفراغ الرئاسي اللبناني، وبقاء مركز رئيس الجمهورية شاغرا، وبقاء البلاد بلا رئيس، هو ما سيضاعف وتيرة الاحتقان في الشارع اللبناني وسيؤدي بالبلاد إلى نتائج وخيمة، تنذر بالكثير من التداعيات الخطيرة، والمفتوحة على الاحتمالات كافة، ليست التفجيرات، وتداعي الأمن، والاغتيالات، إلا أحد تمظهراتها الموغلة في اجتراح الفعل التقويضي، ومن الجلي أن لبنان شهد حوادث اغتيالات كثيرة، فقد اغتيل كمال جنبلاط والد الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وبشير الجميل، ورشيد كرامي، ورينيه معوض، وإيلي حبيقة، ورفيق الحريري، الذي جرى اغتياله في الرابع عشر من فبراير (شباط) 2005 وأخيرا اغتيال العميد في الجيش اللبناني فرانسوا الحاج، وكذلك اغتيال الرائد في قوى الأمن الداخلي وسام عيد، وغيرهم من القيادات اللبنانية الكبيرة، والشخصيات المهمة التي لها ثقلها السياسي في المشهد اللبناني. إن التداخل التجاذبي في المصالح الإقليمية والدولية هو الذي يشكل عقبة كؤودا أمام التوصل إلى رئيس توافقي يضع حداً لحالات الانقسام، وهو العامل الرئيس في حصول مجمل الأزمات التي تغرق الساحة اللبنانية.

يتعذر على لبنان الخروج من مأزقه الحالي واستعادة دوره المعروف عنه، ما لم يتم التوافق السياسي بين القوى الوطنية اللبنانية، وتجسيد الإعلان عن تسمية الرئيس القادم للبنان على نحو ينهي حالة التوتر والاحتراب بين أطياف الشأن السياسي اللبناني. لابد أن يحسم مرشح الرئاسة الذي يعد العماد ميشيل سليمان الأقرب له في ظل الدعم العربي الذي جرى الإعلان عنه مؤخرا في القاهرة، وفي ظل ما يتمتع به العماد سليمان من دعم كبير وترحيب واسع على صعيد الساحة اللبنانية والعربية والدولية.

إن الأغلبية والمعارضة مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتجنيب لبنان كل ما يحاك له من مخططات، والعمل على تشكيل نسيج رؤيوي موحد يجري من خلاله التكيف مع المعطيات الحاضرة وتلطيف الأجواء المحتقنة واعتماد المصلحة اللبنانية العامة هي الغاية التي يتوخى تجسيدها جميع التنويعات الاجتماعية المتباينة. يكفي لبنان ما مر به من تجارب مريرة، وما اكتوى به من نيران الحروب الأهلية، فضلاً عن العدوان الإسرائيلي الذي بلغ في العدوان منتهاه!، لبنان الآن بحاجة ماسة وملحة إلى الأمن والسلام والتعايش والاستقرار والتنعم بما حباه الله من خيرات، ولذا فالخيار المصيري والوحيد والأكثر ملاءمة في ظل هذه اللحظة الآنية والمعقدة هو تجسير الفجوات، ومد خطوط التواصل بين الفرقاء، واعتماد لغة الهدوء بحسبها السبيل الأوجه لإخراج لبنان من عنق الزجاجة، والعودة به إلى محيطه العربي ليلعب دورا إيجابيا شديد الفاعلية. ليس من مصلحة لبنان أن يسعى طرف مّا إلى الخطاب التصعيدي المعمق للهوة، والعمل على إذكاء الخلاف، ومحاولة تغييب طرف آخر عن دائرة الفعل السياسي، أو العمل على تقليص سمك المحيط الداعم له، بغرض إضعافه أو حسم المواجهة معه! فالخاسر الأول هم اللبنانيون، والضحية الوحيدة هو لبنان، هذا البلد الذي ما زال وسيظل علامة فارقة منطوية على حمولة كبيرة من الرموز والدلالات!!.