Al Jazirah NewsPaper Monday  18/02/2008 G Issue 12926
الأثنين 11 صفر 1429   العدد  12926
الكتابة العربية لاتزال شفهية ! (2)
الكتابة الموضوعية
د. عبد الرحمن الحبيب

في المقالة السابقة تناولت الكتابة الصحفية في الدول العربية والتي هي غالباً أقرب للقول المحكي (ثقافة شفهية) منها للكتابة الصحفية.. سأتناول هنا الكتابة الموضوعية التي تشمل الكتب والأبحاث والدراسات وأوراق العمل والمقالات الموضوعية..

في تقديري أن الكتابة الموضوعية في العالم العربي تفتقر لعناصر أساسية في الكتابة، أهمها ثلاثة: المنهجية، التوثيق، متابعة المستجدات..

أقصد بالمنهج الخطة العامة لوضع إطار للعمل المكتوب يربط الأفكار الرئيسية المطروحة في وحدة متماسكة تنظم الأفكار وتعمل على ترتيب عرض الملاحظات والتحليل وطرق اختبار الآراء أو الفرضيات المطروحة، بحيث يتكون بناء تراكمي لعرض الأفكار ومناقشتها حتى الوصول للاستنتاج المطلوب.. الإطار هنا هو أساس المنهجية، والمنهجية تمتاز بالمرحلية، أي مراحل متسلسلة منطقياً ومترابطة.. والمنهجية تشتمل على أسلوب أو أكثر من الأساليب العلمية المعروفة تمكِّن الكاتب أو الباحث من الكتابة المنظمة والموضوعية التي يمكنها التثبت من النتائج وتعميمها للاستفادة منها في فهم الظاهرة المدروسة وظواهر أخرى مشابهة، والقدرة على التنبؤ بوضع تصور مستقبلي..

إذا استثنيت الكتابات الأكاديمية المحّكَّمة فإن أغلب الكتابات الموضوعية الأخرى تفتقر إلى المنهجية الهيكلية (الإطار العام)، التي تسهل على القارئ فهم وجهة نظر الكاتب، ومن ثم استيعابها، وبالأخير سهولة استحضارها والاستفادة منها لاحقا وعدم نسيانها بمجرد الانتهاء من قراءتها. الإطار يمنح القارئ قدرة على تصور الفكرة وفقاً لبناء مؤسس يخرج منه برؤية واضحة ومحددة لمجموع الأفكار المتناثرة، فقد يكون الكتاب مليء بالأفكار الرائعة ولكنه بلا إطار منهجي يغدو كاللآليء المنثورة لا خيط يجمعها في عقد متناسق يوضح جمال أحجامها وبريقها.

جرب أن تختار عشوائياً مجموعة متفرقة من الكتب العربية الموضوعية في إحدى المكتبات، ستجد أن أغلبها لا تلتزم المنهجية, لقد جربتُ ذلك عدة مرات، فوجدت أن أكثر من نصف الكتب العربية الموضوعية - أحياناً تصل إلى 70% - تفتقد للمنهجية، وقمت بنفس العمل في الكتب الإنجليزية في المكتبات البريطانية ووجدت أن أقل من 10% من الكتب لا تلتزم المنهجية في الكتب الموضوعية.

أما أوراق العمل وما يسمى الأبحاث في الندوات أو المؤتمرات الثقافية في الدول العربية، فقد تجد أن جميع الأوراق المقدمة لا تلتزم المنهجية! مثلاً تجد أن مقدمة الورقة تخلو من توضيح طبيعة العمل أو مبرراته أو أهدافه أو طريقة العرض وأسلوب الدراسة، بل هناك أوراق عمل بلا مقدمة، يظن كاتبها أنها مقدمة! وقد تجد أن الانتقال بين فصول الدراسة - أو فقرات المقال - غير مرتب تسلسلياً أو تراكمياً، إنما يتم بفوضى ومزاجية شخصية تنبئ عن عقلية مرجعيتها ثقافة شفهية.

بالطبع ليس شرطاً أن تلتزم جميع الكتابات الموضوعية بالشروط المنهجية المتعارف عليها، فقد يرغب الكاتب في كسر الشروط لهدف موضوعي، أو قد يرى الكاتب أن الضبط المنهجي لا يناسب طبيعة موضوعة، أو لأي سبب آخر من المبررات المنطقية، لكن أن تمثل هذه الكتابات الأغلبية، فهنا مكمن الخلل، والمشكلة الأكبر أن لا يعرف الكاتب أن ثمة أسس منهجية للكتابة!

وإذا انتقلت إلى التوثيق الذي هو أساس المصداقية، فستجد أن هناك معلومات من المهم جداً أن يوضح الكاتب مصدرها، ولكنه لا يعمل ذلك.. وستجد أن بعض المراجع لا يمكن التعويل عليه في بعض المعلومات إما لطبيعته - قناة تلفزيونية أو صحيفة - أو لعدم حياديته، أو لعدم تخصصه ...إلخ، كما أن بعض المعلومات لا يمكن أخذها إلا من مصدرها الأصلي، ولو ترجمة.

إن من أشهر الأمثلة المأساوية التي وجدتها في مسألة التوثيق والتأكد من صحة نقل المعلومة ودقتها، هو نظرية (نهاية التاريخ) لفرانسيس فوكوياما، فعندما قمت باستعراض العديد من الكتابات العربية السابقة، وقرأت بدقة 15 منها، وجدت أن جميع من كتبوا هذه الخمسة عشر لم يطالعوا النظرية من المصدر الأصلي (أو المترجم)، لأن فيما كتبوا أفكاراً وآراء ظنوا أنها في النظرية وهي ليست كذلك.. إن هؤلاء الكتاب استندوا على مقالات في الصحف كتبت عن هذه النظرية، أو أنهم سمعوا عنها في ندوة ثقافية أو برنامج تلفزيوني أو مجلس مثقفين، ففهموها ارتجالياً وبشكل مشوه! وإذا كان يحق للقارئ أن يستند على هذه المراجع ليتخذ موقفه الشخصي، فإنه لا يحق للكاتب أن يناقش نظرية أو فرضية أو فكرة إلا بالرجوع لمصدرها الأصلي، وإذا تعذر ذلك فلابد من الرجوع لأكثر من مرجع عالٍ المصداقية.

وبالانتقال إلى متابعة المستجدات، فإن التأخر في تلقي المعلومات الحديثة والتأخر في مناقشة النظريات العلمية والفكرية والأدبية التي تظهر في العالم المتقدم، هي سمة ظاهرة في الثقافة العربية، رغم أنها خفَّت عن ذي قبل، بسبب توفر المعلومات الحديثة نتيجة ثورة الاتصالات خاصة الإنترنت والفضائيات.. ولكن للأسف لا يزال الكُتاب ينقلون لنا أفكاراً ونظريات مضى عليها عقود من الزمن، وأصبحت في ذمة التاريخ، ويتم النقاش حولها وكأنها حية وحيوية.

وإذا رجعنا للمثال السابق عن نظرية (نهاية التاريخ) فرغم أن صاحبها فوكوياما أعلن التخلي عنها، وأصدر كتاباً قبل خمس سنوات عن الثورة البيوتكنولوجية.. ورغم أن النظرية فقدت بريقها، وأصبح النقاش حولها سيتم باعتبارها جزءاً من تاريخ الأفكار لها بقايا يمكن النقاش حولها، كالحتمية التاريخية والديالاكتيك الهيجلي، لكن كثيراً من الكتاب لايزال يناقشها باعتبارها فكرة جوهرية حاضرة، ولا علم لديهم بالمستجدات العديدة والمتنوعة التي حصلت في هذا الموضوع!

هذه النواقص الثلاث (المنهج، التوثيق، متابعة المستجدات) في مقومات الكتابة الموضوعية، يتفاعل معها نواقص أخرى كالارتجال والمزاجية والانحياز والعشوائية.. ولذلك عوامل عديدة، ومن أهمها العامل الثقافية.. فنتيجة طغيان الثقافة الشفهية يعتقد كثير من الكتاب العرب أن الكتابة الموضوعية كالكلام الموضوع عبارة عن طرح أفكار ذكية ورؤى عميقة، وليس المنهج ولا الإطار العام، فهو من الثانوية المفيدة! أما التوثيق الدقيق فهو في رأيهم لزوم مالا يلزم، فكما يكتفي المتحدث بأي مرجع ليسند المعلومة التي ينقلها، فكذلك يفعل الكاتب دون أن يعي أصول التوثيق والإسناد والمرجعية في الكتابة الموضوعية، أما متابعة المستجدات فهي من قبيل الاستزادة غير الضرورية.

إن ثقافتنا الشفهية لا تزال تتغلب على ثقافتنا التحريرية، وطبيعة لثقافة الشفهية تتعامل مع الأفكار والمعلومات بارتجال، بينما الثقافة الكتابية تعتمد على التنظيم.. لا يمكن أن يتم التدوين بلا تنظيم، في نفس الوقت الذي لا يمكن أن تتم الحوارات الشفهية بلا ارتجال.. ومهما كانت أفكار الكتاب ألمعية، ومهما كان الكاتب ذكياً، فإنه دون تنظيم يصبح عملاً مبعثراً قليل الفائدة ولا يبقى إلا لفترة قصيرة.



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد