Al Jazirah NewsPaper Wednesday  20/02/2008 G Issue 12928
الاربعاء 13 صفر 1429   العدد  12928
حكاية الحكاية..!
د. إبراهيم بن عبدالرحمن التركي

(1)

** في كتِّيبه (من حكايات الشيخ عبدالرحمن السعدي) أشار صاحبكم إلى تدخل الشيخ 1307- 1376هـ -عليه رحمةُ الله- في حل مشكلة فهم خاطئ من بعض جماعة المسجد لحديثٍ ألقاه.....

..... الشيخ محمد الدناصوري-أحد مدرسي المعهد السعودي- في مسجد السويطي بعنيزة، وقال: (إن الناس انقسموا إلى حزبين متطرفين وكادت تحدث فتنة لولا تدخله بحكمته ووعيه مما لا يسع المجال تفصيلُه - التركي-ص29).

** وإذْ حظي هذا الكتيِّب بانتشارٍ مرجعُه سمعةُ هذا العالم الرّباني، وحبّ الناس له، ورغبتُهم في تمثلِ وسطيّته، فقد طلب كثيرون تفصيلَ هذه (القصة)، ووعد بذلك في طبعة قادمة، إلا أن ذلك لم يتمّ بسبب إعادة طباعة الكتيب مراتٍ على صورته في الطبعة الأولى، وهو أسلوبٌ متبع يميل إليه أستاذُنا الدكتور عبدالله الغذامي الذي يعدُّ الطبعات المزيدة والمعدلة استغلالاً تجارياً يقومُ به المؤلفون ودور النشر لأهداف ربحيّة، ويؤكد أنه يحترمُ (العقد) الضمني الأخلاقي الذي يلتزم به مع قارئ الطبعة الأولى ولو أصدر الطبعة العشرين.

** وعلى أي حال؛ فلم يكن الأمر بيد صاحبكم، وليس له من طبعات الكتاب -بما فيها الأولى- أيّ مردود مادي، ويكفيه ما لقيه من قبول، وما قد يحظى به من دعوة بظهر الغيب.

** تأخذنا هذه التوطئة إلى القصة المشار إليها مثلما وردت في رسالة بعث بها الشيخ عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- إلى تلميذه الشيخ عبدالله بن عقيل -حفظه الله -، ونشرت في كتاب (الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة) ط أولى 1999م الصادر عن داري المعالي وابن الجوزي (ص249 -262).

(2)

** أُرخت الرسالة في 30-6-1368هـ، وهي -كبقية رسائل الشيخ لتلميذه- مكتوبةٌ بلغة سهلة تختلط فيها العامية بالفصحى، كما أنها -اليوم- مادةٌ خصبة لدراسات متعمقة حول البيئة والمكان والزمان والشخوص والتحولات، ورغم ما قام به محققها الشيخ هيثم بن جواد الحداد من عناية وتعليق إلا أنها بحاجة إلى توافر دارسين يقرءون ما لم تقله الرسائل نصاً، وتمثل مادةً مهمة للباحثين في قضايا الفكر والثقافة والاجتماع.

** ويمكن اختصار القصة بأن الشيخ محمد الدناصوري -الذي وصفه الشيخ عبدالله البسام بأنه صاحب علم وقعت منه بعض الأخطاء التي رجع عنها وحدث بسبب بعضها فتنة- مصري استقدمه الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع للتدريس في معاهد مديرية المعارف، وكان يشرح القرآن الكريم ويقرأُ تفسير ابن كثير على جماعة (مسجد السويطي) -بناءً على إلحاحهم- ، وفي أحد دروسه شرح آية الوصيّة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة- 180)، ونقل عنه بعض الحضور قوله: (إن الأحاديث آحاد لا تفيد اليقين)، وإن (ألفاظ القرآن الكريم قطعية ومعانيه ظنيّة)، وأُعلم الشيخ السعدي بذلك فتيقن حصول تحريف في النقل أو سوء فهم من السامع: (لما أعرفه عن الرجل من الحزم والاحتراز عن كل ما يُنتقد).

** ذهب الشيخ عبدالرحمن إلى الشيخ الدناصوري مستفهماً فأجابه أن ما قاله هو: (اختلف العلماء) هل الأمر بالوصية للوجوب أو للاستحباب؟ وعلى القولين؛ فإن الآية الكريمة منسوخة بحديث (لا وصية لوارث)، والحديث هذا من الآحاد والآحاد لا يفيد اليقين، ومن قال: إني قلت: إن الأحاديث كلها آحاد تفيد غلبة الظن فهو كاذب عليّ، وأكذب منه من يقول عنى إني أرى أن معاني القرآن لا تفيد اليقين، فأيّ مسلم يقول ذلك؟.

** صدق توقع الشيخ عبدالرحمن، الذي غلَّب حسب الظن، وأكد على التثبت، ولم ينتظر مريدين يبعث بهم للتحقق أو ربما للتحقيق، بل بادر بنفسه، ولم يستغل مكانته العلمية ومنزلته الدينية وموقعه الاجتماعي ليُحضروا إليه الشيخ المصريّ، وقدم لنا -بعد هذه الحادثة بستين عاماً- درساً أخلاقياً بليغاً يضاف إلى حياة هذا الإمام الممتلئة دروساً نفتقدها في زمن كثر فيه التعجل والاندفاع والاتهامات وسوء الظن والمزايدة على عقائد الناس وعباداتهم وصلتهم بربهم.

** لم يقف دور الشيخ هنا؛ فالمدينةُ كلّها في هرج ومرج، والناس -بطبيعتها- تميل إلى تصديق المختلف، وقد أصرّ طرفٌ على رفع القضية للجهات الأعلى، كما يضيف الشيخ السعدي في رسالته:

** (الحقيقة أن المعهد (وهو غير المعهد العلمي الذي أنشيء في عنيزة عام 1373هـ أي بعد 5 سنوات من هذه الحكاية) صار سبباً لضرر وفتنة وانقسام كثير من الناس إلى حزبين متطرفين منهما نشأت الفتنة: حزب كان يسيطر على الشيخ ابن مانع ويَرِدُ ويصدر عن رأيهم، وهم ناس ليسوا من أهل الدين ولا من الذين يرغبون المصالح العامة النافعة للبلد.. ووصلت بهم الحال إلى أن يسعوا في إبعاد مَنْ لا يرضون من المعلمين والإيعاز للتلاميذ بمقاطعتهم، وهؤلاء حزب قد حذرنا ابن مانع منهم مراراً، ووقع كما حذرنا، فإنه نشأ حزب آخر في مقابلة هؤلاء، منهم أناس لهم هدى مشوب باسم الدين، وأناس أجاويد ركضوا معهم فقابلوا الفاسد بالفاسد، وأشاعوا عن المعهد الإشاعات الباطلة، ومِنْ هواهم واغترار بعضهم صاروا لا يتثبتون، ويجعلون الحبة قبة، ويبنون على أوهام وظنون، ونشأ من هذا الحزب ما قيل عن الدناصوري وإبراق المعارف له بالتوجه حالا فازداد شر هؤلاء لمّا رأوا أن سعايتهم نجحت بما يريدون من إبعاده، والآن رجع ابن مانع عن ذلك فأمره أن يبقى على تدريسه حتى يأتي بدله).

(3)

** هذه هي خلاصة الحكاية التي احتواها الشيخ بسعة أفقه وبعد نظره، وهي الحكاية التي تتكرر في معظم حكايات الخلاف والافتراق التي يُسعِّرها الفهم الخاطئ، والوشاية المغرضة، وسوء الظن، وسماع طرف دون الآخر، وعلوّ صوت على صوت، والافتقار إلى الرؤى الهادئة المتعقلة التي تلمُّ الشعث، وتفتحُ الحوار، وتدعو إلى إحسان الظن، والنأي بالعامة عن الإثارة، ورفض التقوّل والتعالم والادعاء.

** والأمرُ هنا لا يقتصر على العلوم الشرعية، بل لعله ألزمُ -اليوم- في قضايا الثقافة التي أبيحت واستبيحت ؛ فأضحت ميداناً لسجالٍ غير عادل، ودخلنا أنفاقاً طويلة لم نستطع الخروج منها ؛ فلا يزالُ فينا من أغرقه المؤدلجون في التصنيف اتكاءً على جهلهم بالمصطلح الثقافي أو نأيهم عن محدداتِه، وابتلينا بمن يقرّر الحق وفقاً للأسماءِ، ويرسم الحقيقة تبعاً للأهواء؛ فيقرب من يشاء، ويُبعد من يشاء، ويمنحُ شهادات التميُّز كيفما يشاء، وتمتد حربه، وتقتل حرابُه، وتطال سهامُه الأبرياء دون أن يكل أو يمل أو يراجع ويتراجع.

** مررنا بأزمات بل بفتنٍ كثيرة، وما تزال معضلة شق المجتمع بسبب دعاوى الحداثة وقضايا العولمة والعلمنة ترسم الشقاق، وما يزال في العامة من يستعدي وفي الخاصة من يستعلي، وأين لنا مثلُ أبي عبدالله -عليه رضوانُ الله-؟.

** قيضّ الله للشيخ الدناصوري وعي الشيخ الإمام، ونحتاج اليوم لمن يحمل هذا الوعي؛ فلا تفرقنا شعارات، ولا ننحاز إلى مشاعر، وتحكمُنا العلميّة والموضوعية والوسطية.

* التثبت يقي من التفتت..!



e:mail:ibrturkia@hotmail.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6745 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد