Al Jazirah NewsPaper Wednesday  20/02/2008 G Issue 12928
الاربعاء 13 صفر 1429   العدد  12928
الإساءة للنبي.. وحرية الرأي في الغرب
د. محمد بن سعود البشر

حرية الرأي والتعبير في النظم الحديثة، والغربية على وجه الخصوص، تفوق ما هو موجود عند غيرها من النظم المعاصرة، لكن المتخصص المتابع لواقع تطبيقات حرية الرأي يلحظ بوضوح أن هناك تعارضاً بين واقع الممارسة الإعلامية وبين ما تنص عليه قوانين حرية الرأي، إذ تبدو مخالفات وسائل الإعلام للقوانين الضابطة لحرية الرأي والتعبير واضحة للعيان لكل متخصص متابع.

وبادئ ذي بدء ينبغي التوكيد على أن مخالفات وسائل الإعلام داخل المجتمعات الغربية أقل بكثير من مخالفاتها في القضايا الخارجية التي تخص الأفراد والجماعات والدول الأخرى، والسبب في ذلك يعود إلى صرامة الجهات المختصة بتنفيذ القانون داخل كل مجتمع غربي، مثل المحاكم وهيئات الاتصالات والنقابات المختصة، وهذا لا ينفي عدم وجود خروقات للقوانين الإعلامية من قبل وسائل الإعلام، بل هناك تجاوزات سببها تعدد التفسيرات لمواد القوانين والأنظمة والعبارات الفضفاضة التي تتضمنها الأنظمة ذات العلاقة بضبط الممارسة الإعلامية، كما في هيئة الاتصالات الفيدرالية في الولايات المتحدة على سبيل المثال.

وليس من هدف هذه المقالة رصد وتحليل المخالفات الإعلامية داخل المجتمعات الغربية ومناقضتها للقوانين المعمول بها في تلك المجتمعات، فهذا شأنهم وضرره عليهم، وإن كان في جملته يتفق مع النسق العام الذي نحاول الوصول إليه وهو نقد حرية الرأي ومعارضتها للقوانين الضابطة لها. الذي يهمنا هنا هو أن نختار نموذجاً لتلك المخالفات الكبرى التي تمثل منعطفاً خطيراً في حرية الرأي في الغرب، وتأثرت بها مجتمعاتٍ وشعوباً جراء المفهوم المتلون لهذه الحرية من الساسة والإعلاميين تحقيقاً لمصالح دينية، أو أطماع اقتصادية، أو أهداف إستراتيجية تجمع ذلك كله وغيره.

وفي هذه المقالة نختار نموذجاً حياً، نناقش فيها واقع تطبيقات حرية الرأي والتعبير في النظم الغربية، ومعيار الاختيار أن هذا النموذج أحدث أثره الكبير، ليس في المجتمعات الغربية نفسها، بل في العالم كله على المستويات الرسمية والشعبية، كان الإعلام - تحت ذرائع حرية الرأي - طرفاً رئيساً في صنعها والترويج لها، إنه نموذج الرسوم المسيئة لشخص النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- في الصحف الدنمركية الذي تتكرر مشاهده اليوم بنشر 17صحيفة دنمركية رسومات تسيء إلى مقام رسول الرحمة إلى العالمين - صلى الله عليه وسلم-.

فتحت دعاوى (حرية الرأي) (حرية التعبير)، وامتداداً لتشويه صورة الإسلام في الغرب من خلال التطاول على تراث المسلمين ومقدساتهم نشرت صحيفة (جيلاندز بوستن) الدنمركية في 12 سبتمبر 2005م رسوماً كاريكاتورية مسيئة لشخص الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم-، اثنتي عشرة صورة تحمل أوصافاً بذيئة ترددت في كتابات المستشرقين عن العرب والمسلمين، أهمها وصف (القاتل)، و(الإرهابي) مستفيدة من المناخ السياسي والإعلامي في الغرب الذي يشن حملات متتالية ضد الإسلام والمسلمين بذريعة (الحرب ضد الإرهاب).

وتحت دعاوى (حرية الرأي) أيضاً أعادت عدة صحف أوروبية وأمريكية نشر الرسوم الكاريكاتورية متسببة في موجة غضب عارم لدى المسلمين، ففي باريس أعادت جريدة (فرانس سوار) نشر الرسوم، وقالت إنها اختارت نشرها لأن بعضها (طريف)، وعلقت في صفحتها الأولى على النشر بقولها: (إن هذه الخطوة تأتي دفاعاً عن حرية التعبير)، وفي النرويج أعادت صحيفة (مغازينات) نشر الرسوم في عددها الصادر بتاريخ 1 يناير 2006م.

هذه الرسوم المسيئة لشخص النبي - صلى الله عليه وسلم- أثارت ردود فعل احتجاجية واسعة، رسمية وشعبية في العالمين العربي والإسلامي، وفي العديد من البلدان الغربية التي توجد بها جاليات مسلمة، ومما زاد من الاستياء العام لهذه الرسوم تضامن عدد من الصحف الأوروبية والمسؤولين الأوروبيين في موقفهم من قضية الإساءة للنبي - صلى الله عليه وسلم- باسم حرية الرأي والتعبير، فقد قال رئيس وزراء الدنمارك: (القضية تتركز على حرية التعبير في الغرب مقابل المحرمات في الإسلام)، أما وزير الخارجية الفرنسي فقال: (لا يجب التشكيك في حرية الصحافة)، وقال وزير الداخلية الفرنسي - الذي أصبح الآن رئيساً للجمهورية: (المبالغة في الكاريكاتير أفضل من المبالغة في الرقابة)، وتعاطفت كثير من المقالات الصحفية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية في الدول الغربية مع موقف الصحف من نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي - صلى الله عليه وسلم - معللة ذلك بدفاعها عن حرية الرأي والتعبير في الديمقراطية الغربية.

وعلى الرغم من أن القوانين الإعلامية نصت على تقييد حرية الرأي إذا انتهكت حريات الآخرين أو أثارت مشاعر العداء الديني من خلال خطاب الكراهية الذي يشير إلى (التعبير الذي يتضمن معاني الإهانة أو الاستهزاء بطريقة تبعث الكراهية أو تؤدي إلى العنف أو تعزز العنصرية المبنية على العرق أو الدين)، وعلى الرغم أيضا من الإعلان الصادر عن الأمم المتحدة الذي تنص مادته الـ(20) على (منع أية دعوات للحرب والعنف) إلا أن ذلك لم يمنع وسائل الإعلام الغربية من انتهاك هذه القوانين والتشريعات بنشرها الرسوم المسيئة للنبي في وقت سابق، تم الإصرار والتمادي في ذلك بإعادة نشر تلك الرسوم البذيئة هذه الأيام.

والمعنى الأساس المستخلص من إيراد نموذج الإساءة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في وسائل الإعلام الغربية ودفاعهم عن موقفهم من نشرها باسم حرية الرأي أن هناك تناقضاً صريحاً بين التأطير الموضوعي لهذه الحرية في القوانين الإعلامية وبين ممارساتها وتطبيقها في الواقع، ففي حين يُنظر العدوان على قيم باسم (حرية الرأي)، تكبت الحرية ذاتها عندما تصور بأنها إساءة إلى قوم آخرين وباتت الثغرة الرئيسة في خطاب (حرية الرأي) الذي تردده المجتمعات الغربية تكمن في أن هناك حساسيات ثقافية وسياسية لا تقبل هذه المجتمعات المساس بها، وفي الوقت نفسه ترفض احترام السياسات الدينية والثقافية للمجتمعات الإسلامية، بل وتعتبر احترامها اعتداء على حرية الرأي، والأمثال في هذا السياق تضيق عن الحصر، وحسبنا أن نذكر شواهد منها فيما يتعلق بقضية واحدة فقط، وهي تعامل وسائل الإعلام الغربية والجهات المسؤولة عن تطبيق القوانين في الغرب مع قضية المحرقة النازية لليهود (الهولوكوست) لتستبين المقارنة والتناقش الصريح بين دعاوى (حرية الرأي) في الإعلام الغربي وتطبيقاتها في الواقع.

ففي شهر أبريل من عام 1994م أعلنت المحكمة الدستورية الألمانية أن أية محاولة لإنكار حدوث الهولوكوست فإنها لا تتمتع بحماية حق حرية التعبير التي يمنحها الدستور الألماني، مما دفع البرلمان الألماني أن يضع قانوناً يجرم أية محاولة لإنكار وقوع الهولوكوست، ويوقع بمرتكب هذه الجريمة عقوبة السجن خمس سنوات, وفي النمسا يعاقب الإنسان بالسجن إذا أنكر وجود غرف الغاز التي أقامها النازيون أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1993م قامت الحكومة النمساوية بتعديل القانون بصورة تجرم أية محاولة لإنكار أو التقليل من شأن جرائم النازية سواء بالكلمة المكتوبة أو المذاعة، وفي عام 2006م قضت محكمة في النمسا بالسجن ثلاث سنوات على المؤرخ البريطاني ديفيد أريفنج بتهمة أنه نفى محرقة اليهود في العهد النازي، وفي عام 2006م أيضا تم إيقاف عمدة لندن (كين ليفنجستون) عن العمل لمدة شهر بتهمة سب صحافي يهودي عندما شبهه بأنه كأحد حراس معسكرات الاعتقال النازية.

وشواهد كبت (حرية الرأي) عندما يتعلق الأمر باليهود - والهولوكوست خاصة - مستفيضة في وسائل إعلام الغرب، فلماذا يتحرك العالم كله من أجل إنصاف اليهود وحدهم، ولماذا تكبت (حرية التعبير) إذا مسّت شيئاً يهودياً وتُقدس إذا أساءت للأغيار؟ إن هذا التمييز ابتذال شنيع لحرية التعبير نفسها، إن مجال حق حرية الرأي والتعبير يسقط موضوعاً وشكلاً إذا اعتراه التمييز الظلوم الموغل في العنصرية، كما يؤكد ذلك الكاتب الإسلامي المعروف الشيخ زين العابدين الركابي في مقالاته المستفيضة عن هذا الموضوع في جريدة الشرق الأوسط.

إن المسلمين حين احتجوا على الإساءة لنبيهم لم يكونوا ضد الحرية، ومن التضليل تصوير المسألة في هذه الصورة، وإنما احتج المسلمون على (التعسف) في استعمال الحرية.

هذا التعسف في استعمال مصطلح الحرية يخدم غايات شتى باسم (حرية الرأي)، غايات سياسية، وغايات ثقافية، وغايات دينية، فالحجب المعلوماتي لمسوغات الاحتلال الأمريكي للعراق وتضليل الرأي العام العالمي لأهدافه يخدم غايات سياسية مرتبطة بالمصالح الإستراتيجية للغرب في المنطقة، والهجوم المتتابع لوسائل الإعلام الغربية على السعودية ومؤسساتها المجتمعية يخدم غايات ثقافية تبتغي فرض أنموذج ثقافي غربي على معقل الإسلام وثقافة المسلمين، والإساءة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في وسائل الإعلام الدنمركية وتعاطف الإعلام الغربي معها باسم (حرية الرأي والتعبير) هو - بلاشك - يخدم غايات دينية أيديولوجية.

أفبعد هذا كله يمكن أن نسلّم بأن في الغرب حرية رأي نزيهة وموضوعية إذا تعلق الأمر بقضايانا نحن المسلمين؟

إنه شعار يبرق بالزيف والتضليل، يصدقه ويهفو إليه المخدوعون بالغرب وثقافته!!

أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الإمام.



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد