Al Jazirah NewsPaper Friday  29/02/2008 G Issue 12937
الجمعة 22 صفر 1429   العدد  12937
من نوادر الأوقاف
د. محمد بن سعد الشويعر

دفعني لهذا الحديث، ما رأيت من وقف جديد في نوعه، في أحد جوامع شرق الرياض، إذْ تبرع أحد المحسنين، بما يعين المصلين عند خروجهم من المسجد، في كل وقت بصفة عامة في الشتاء، وبعد صلاة الجمعة لكثرة المصلين، لأنهم يأتون بزينتهم، وخاصة الأحذية، فأوقف هذا المحسن عند كل باب، وعند دواليب الأحذية (ملعقة)، تعين كل فرد على لبس حذائه، وهو واقف، ولها يد طويلة، لا تحوج الإنسان للانحناء عند اللبس.. ثم تعاد لمكانها لينتفع بها الآخرون.

فأوقف هذا المحسن عند كل باب، وعند دواليب الأحذية (ملعقة)، تعين كل فرد على لبس حذائه، وهو واقف، ولها يد طويلة، لا تحوج الإنسان للانحناء عند اللبس.. ثم تعاد لمكانها لينتفع بها الآخرون.

وطول اليد أكثر من متر، وهذا مما جدّ في هذا الزمان، كما هي عادة الأوقاف، بما يناسب حالات الناس.

ولما كان وقف قِرب الماء - جمع قِرْبة - في فصل الصيف، في المساجد والأماكن العامة، ولها جراية وعليها أوقاف، من أجل الغريب والمسافر والمحتاج وعليها من يتولاها، ويهتم بها تعبئة وتفقداً، فإنّ الموسرين وبعض الفلاحين يوقفون عليها تمراً من محاصيلهم ويسمونه تم الصوّام، ويكثر هذا في رمضان، وفي أيام الصيام من كلّ شهر، وعند قطاف التمر: ليطعم منه، ويشرب من الماء المسافر والغريب والجائع، فقد استبدل في الوقت الحاضر، ولمنفعة العمالة المتنوعة، بالبرادات وإفطار الصائم، التي جاءت بأساليب جديدة، أقلّ كلفة، وأنفع مع ما هيأ سبحانه من رخاء عند المواطن والدولة، فيستفيد المتعفّف والمضطر.

دور الاهتمام بسقياء الماء لفضله، يسترعى اهتمام الدولة، تيسيراً على الناس، فتنوّعت أوقاف المياه، وخاصة حفرها، وتأمين كل ما يلزم لها: سواء في موارد المياه، أو في الصحارى والموارد، وعلى جنبات الطرقات، وبقرب المساجد، في المدن والقرى، وما يترتب لها من مستلزمات: نظافة أومعدات أوبناء أو حفر آبار: تحلّ متطلبات بني آدام، والحيوانات الأليفة والمتوحشة والطيور وغيرها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في كلّ نفس رطبة صدقة).

ونرى مسارعة الناس، في أشياء صغيرة، ولكنها عند الله كبيرة، كما في قصة المرأة البغيّ، التي دخلت الجنة، في إرواء ظمأ كلب، رأته يلهث من شدة العطش، عند بئر، فنزلت البئر، وحملت بفمها وبحذائها ماء، فأسقته للكلب وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شكر الله لها وغفر لها وأدخلها الجنة).

ولأهمية الماء وخاصة في الصيف، وفي الأماكن الصحراوية والنائية عن الأماكن المسكونة، جاء ترديدهم تشجيعاً وحقاً، القول المأثور: (من كثرة ذنوبه فليسق الماء).

ولما كانت الحكومات، هي التي تتولى سقيا المياه لمواطنيهم، فقد أدخلت كثيراً من الوصايا والأوقاف، على ما تتولاه الحكومات في كثير من الأمور، وينفق عليها توسعة، من الخزينة العامّة.

والمدارس والكتب من الأولويات التي يهتم بها الناس، للرغبة في العلم وتشجيعه نموذج ذلك وقف (ويحس) في الزّبير عام 1186هـ بإيجاد مدرسة ينفق عليها هذا الثري، وخاصة أبناء الفقراء، فأصبحت كجامعة يأتيها الطلاب من كل مكان وخاصة من نجد، وقد أوقفت امرأة هندية اسمها (صولت النساء) في عام1289هـ، جاءت حاجّة، وهو غنية جداً، تريد أن تتبرع برباط ينفع به الحجاج، فاستشارت الشيخ رحمت الله الهندي، الذي جاور في مكة بعد مناظرته لكبير قساوسة بريطانيا في الهند (فيندر) ثم هزيمته، فقال لها إن الأربطة في مكة كثيرة، وشباب المسلمين في حاجة للتعليم، فاجعليه وقفاً تعليماً، فكانت المدرسة الصولتية، التي نفع الله بها كثيراً، وزارها الملك عبدالعزيز في جمادى عام 1344هـ، بعدما استقر في مكة، وقال: (إن الصولتية في بلادي هي الجامع الأزهر).

وعن الأوقاف الصغيرة، وما تحدثه من أثر في النفوس، لأهمية توفرها عند الناس، نجد نموذجاً لا يخلو منه الآن مسجد من المساجد، ألا وهو وقف الكراسي، لأن الفقير والغني، يحتاجان لذلك، إنْ لم تكن حاجة الغني الذي جاء للصلاة في المسجد، أشد لأنه لا يستطيع أداء الصلاة بدون الكرسي الذي يجلس عليه، مع أن ثمنه زهيد، ولكن الناس اليوم، ومع الأوضاع الصحية، المقترنة بمسببات المدنّية، أحوجت لذلك: غنياً وفقيراً.

ومن الأوقاف الطريفة، أنني رأيت، وثيقة وقف في دمشق بسوريا، قديمة لأحد المحسنين، الذي أجرى وقفاً بآنية (صينية) تشبه الطبق، أوقف على هذه الجراية، عقاراً يعطي ريعاً جيداً، وجعل ناظراً عليه، وعند السؤال تبين أن لذلك سبباً، فقد رأى غلاماً يبكي بشدة، لأنّ ذويه أرسلوه للخباز، ومعه طبق صينيّ، مصنوع من الطين الأبيض، فيه عجين لخبزها في تنوّر الخبّاز، حيث لم يعرف ذلك الوقت، أن الخباز يبيع الخبز، وإنما يوقد الفرّان فرنه بالحطب، وتأتي النساء والغلمان بعجينهم ليخبزه لهم بأجر زهيد.

فعثر ذلك الغلام، وانكسر طبقه، وامتلأ عجينه طيناً وتراباً، وهذا سبب بكائه، فرق له قلب المحسن وعوضه عن ذلك، ثم أجرى ذلك الوقف، الذي صار ساري المفعول مئات من السنين، حتى تبدّلت الأحوال، ويسمونه وقف (القنّينة)، وفي تونس نجد مثل ذلك، وقف (التربّوجة)، فلما سألت عنها، قيل: هي زجاجة أو قارورة من زجاج يحمل فيها زيت الزيتون للإضاءة ليلاً، وعلى الزيت في شمال أفريقيا، أوقاف عديدة، قبل الإضاءة بالكهرباء، فكان الموقفون على (الدّبوجة) يملك دكانهم أعداداً كثيراً من هذه القوارير، يعوضون، كل من انكسرت قارورته، حتى يسلم من العقاب لإهماله.

وعندنا نماذج متعدّدة من الأوقاف، تتلاءم مع متطلباتهم، خُذ هذا المثل وحكايته: أحَدٌ يتصدق على السراج وأحد يأكل دهنته، ذلك أن السّراج ذلك الوقت، وعاء صغير منحوت من الحجر، فيه فتيلة من القماش، فيجعل الدهن، الذي هو من (الودك) المذاب من الشحم، في الإناء الحجري، الذي هو السراج، ويوقد (بالزّند) قبل اختراع الكبريت، ليضيئ السّراج للناس، طرقاتهم وفي مساجدهم وبيوتهم، فيأتي أحد الفقراء، بقوته (خبز جاف)، ليرطبه من دهن السراج، فيلام على ذلك بهذا المثل.

والشيخ عبدالعزيز الحصين قاضي شقراء والوشم في الدولة السعودية - الدور الأول - جاء في وصيته، بأنه أوقف في سبيل الله سيفاً ودرقة، وستاً من التفق - أي الرصاص - ومجموعة من الكتب على طلبة العلم (وضحها بالتفصيل في نفس الوصية، وقف على عياله، وعيال عياله، وعيال إخوانه، فإن لم يكن فيهم قارئ فعلى المسلمين، وجعل الناظر على هذا الوقف عبدالله ابن أخيه إبراهيم، ونصيبه من ثمار النخيلات: فَيْدعليّان، في أم تينه، وقف على المحتاج الأقرب فالأقرب (لمن يرغب الاطلاع على صورة الوصية وتفاصيلها، ونصها يراجع كتابنا (شقراء مدينة وتاريخ ج1 ص119 - 120 - 122).

وأقتطف هنا نموذجاً من الأوقاف التي كانت سائدة في شقراء، وفي غيرها من مدن القصيم وجميع نجد قبل فترة من الزمن، وأوردتها سرداً بدون تفاصيل، في كتابي شقراء الجزء الأول ص118 فما أكثر ما تجد من المعدات المستعملة، الموقوفة على أعمال الخير: فالموازين ومقاييسها، يتعدها أناس بالمحافظة والرعاية، فقد أوقف كثير منها للاستعمال ثم تعاد لمكانها مع إصلاح ما يتعطل منها وهي: القفّان بحصاته، حيث أوقف أكثر من مائة، للمحتاج لوزن: البرسيم والأعلاف والأشياء المتوسطة الحجم والنقل، والقبان بالباء، وهو شبيه بالميزان العادي، إلا أن كفتيه كبيرتان لوزن الأكياس والأشياء الثقيلة، ومعاييره كبيرة جد وثقيلة، وقد استقدمه التجار من الهند، وأوقفت ولهذه كلها نظراء للمحافظة عليها.

كما أوقف في السوق التجاري، أنواع عديدة مثل: الصاع والمدّ ومشتقاتهما: النصيف والربيع والثمين، وهي مصنوعة من الخشب، والزراع والهنداسة وهما صناعة حديدية.

إلى جانب الأوقاف الأخرى، كالمقص: لقصّ الشارب وغيره، والدواة والورق والأقلام والسّراج، وتجهيز الميت، ودار للغرباء، وحوش بغرفة لإسكان المرضى الغرباء وعلاجهم شعبياً، مع ما يحتاجه المتوفى، وأوقاف على حفر القبور.

وقد أخبرني الشيخ عبدالله بن منيع حفظه الله: بأنّ في شقراء مجموعة من الأسلحة، وهي وقف من الأوقاف العديدة وموضوع لها ناظر وللنساء أيضا أوقاف: من ملابس وحلي، تتزين به المرأة الفقيرة، في عرسها أو للمناسبات، ثم تعاد للناظرة على هذا النوع من الأسلحة، حتى المنقاش لإزالة الشوكة، والقدور والصحون للمناسبات، وأمشاط الشعر، وبعض الأدوية الشعبية والدهون، سواء للنساء للعلاج، وللرجال كذلك، ولمن يؤلمه ضرسه يجد وقفاً للعلاج، ومقلاع لخلعه، وغير ذلك مما يحتاجه الإنسان، توجد ويتبرع الواقف بالمساعدة بدون عوض، وهي أمور بسيطة لكنها ذات قيمة في وقتها.

وفي نظري أن هذا الموضوع واسع وفيه نوادر، ويحتاج إلى دراسة وافية ومتأنية لأنها تنبئ عن مجتمع مترابط.. وهذا مايحث عليه الإسلام وقيمه ذات الأثر رغم الفقر في البيئة.

خير جوار:

لما ضيّق المشركون على الصحابة ايذاءً وضرباً وتجويعاً، أمرهم رسول الله بالهجرة إلى الحبشة لكن المشركين تآمروا بإفساد هذا الجوار، وإعادتهم إليهم فاختاروا رجلين جَلْديْن من قريش إلى النجاشي ومعهما هدايا للنجاشي وبطارقته، وأعطوا البطارقة هداياهم فقالوا للنجاشي قومهم أعلم بهم، وبما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، وكان عددهم (12) رجلاً وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب النجاشي وقال: لاها الله أنْ أسلمهم، وقد اختاروا جواري.

فدعاهم النجاشي، ليسألهم عن دينهم، وجمع أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، فسأل الصحابة قائلا: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به، في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: أيها الملك كُنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا، رسولا منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.

وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.. وعدّد عليه أمور الإسلام، فصّدَقْنا وآمنا به، وأتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان، من عبادة الله تعالى، وأن نستحل الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.

فقال النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قال: نعم. قال النجاشي: فاقرأه عليّ.

فقرأ عليه صدراً من سورة مريم، فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته، حتى بللوا مصاحفهم بالدموع حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والله الذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا - يعني الرسولين - فلا والله أسلمهم إليكما، ولا يكادون.

ثم قال: ردّوا عليهما هداياهم، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة، حين ردّ عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ، فأطيعهم فيه فخرجا من عنده مقبوحين، مردودا عليهما ما جاءا به، وأقام المسلمون عنده بخير دار. مع خير جوار. (سيرة ابن هشام: 1: 36 - 362).



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد