كم هو عظيم ألم الفراق!، وكم هو صعب ذلك التعبير عنه! فهو أصعب عندما يكون المفارق والدك، وأشد صعوبة عندما يكون شيخاً عالماً كان له أثر في المسيرة العلمية يوماً من الأيام في هذه البلاد الطاهرة، (وفي مدينته على وجه الخصوص).. يوم أن كان فيه الدعاة والعلماء قلة يعدون على الأصابع، وكم يعصرك الألم ويقشعر جلدك وتغرورق عيناك بالدمع عندما تتذكر رحيل من تحب وقد طَبَع في مخيلتك جملة من الصفات العالية والأخلاق الحميدة التي قلما توجد إلا في عالم رباني وشيخ فاضل قد تربى على المنهج السلفي الوسطي، وتأثر بنور القرآن ومنهج سيد المرسلين (صلى الله عليه وسلم).
ففي يوم الاثنين الموافق 5-1-1429هـ الخامس من شهر الله المحرم من عام ألف وأربعمائة وتسعة وعشرين للهجرة، في الساعة الواحدة والنصف ظهراً فاضت روح والدي الشيخ الدكتور صالح بن عبد العزيز المنصور بمستشفى الملك فهد التخصصي في مدينة بريدة إلى بارئها بعد معاناة مريرة مع المرض، رحل بعد أن أدى الأمانة؛ إن على مستوى دينه وأمته ومجتمعه أو على مستوى أسرته وأهل بيته - نحسبه كذلك والله حسيبه - رحل وهو يحمل هم الدعوة إلى الله تعالى في آخر لحظاته، رحل وهو يردد في سكرات الموت قول الباري جل وعلا {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوإِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
غفر الله لك يا والدي، وأعطاك على نيتك ما عسى بقي من عمرك إلا سويعات لأن تدعو إلى الله على بصيرة، وأنت مطروح على سرير العناية المركزة، ولكن أبشر بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}فيا ليت شعري وأنت تراه وهو يردد تلك الآيات السالفة ويخطب بها ويسحبها سحباً مع ما يعانيه من ضيق التنفس وقلة الجهد، والأكسجين قد وضع على أعلى درجاته والمحاولات الجادة من الجالسين عنده لتهدئته إلا أنه يأبى إلا أن يواصل الدعوة والخطب والذكر والدعاء بعد أن ارتشف قليلاً من الماء، إلى أن دخل في غيبوبة لوضع التنفس الاصطناعي عليه نظراً لتردي حالته، حتى فارق الحياة بعد سويعات من تلك الكلمات المنيرة والعبارات المؤثرة، وهذا هو منهج العلماء الربانيين الذين يحملون هم الدعوة، وقد ذكَّرني ذلك نهج النبي صلى الله عليه وسلم حينما حذر أمته من الشرك وهو في سكرات الموت صلوات ربي وسلامه عليه...
رحلت عنا يا والدي وقد زرعت فينا جملة من الخصال الحميدة، رحلت وقد كنت رمزاً للتواضع ونكراناً للذات، فكم كنت حانياً علينا، وكم كانت توجيهاتك كالندى على قلوبنا، بل كهمس الرياح على الورود في فصل الربيع، فلم ترفع علينا يوماً يداً، بل ولم ترفع علينا صوتاً، بل ولم تعنف ولم تحقِّر أحداً منا مهما كان منه من تصرف وتقصير، وكم كنت تعالج الأمور بحكمة وروية، وكم كان الحلم ديدنك، وكم مرة وجهت المحتار منا، وكم وقفت معه حتى سلك الطريق السوي للوصول إلى أعلى الدرجات العلمية، لكي يتسنَّم أعلى المناصب الوظيفية، وكم كان لك فضل - بعد الله عز وجل- في صلاحنا وتوَجُهِنا، وكم كنت رائدنا في الصبر والتحمل ومكابدة العيش والاعتماد على النفس - بعد الله -، وعدم الاتكال على الغير، وكم كنت رحيماً بأولادك، بل بالبعيدين عنك؛ فقد كنت تسأل عن حال المرضى وأنت أحق أن يُسأل عنك، وعن صحتك ويُشفق عليك.. ولسان الحال: طبيب يداوي الناس وهو عليل، وكم كنت شاكراً وذاكراً لله تعالى عندما تُسأل عن حالك فتجيب أنك بخير ونعمة وعلى أحسن حال، وأنت في واقع الأمر تعاني ما تعاني من الأمراض التي لا يعلمها إلا الله سبحانه، ولكنه الصبر والاحتساب، وكم كنت خاشعاً لله تعالى وذارفاً للدمع حتى ظننا أن عينيك أصابهما ضرر فأحضرنا لك الطبيب لعل عنده من العلاج ما عساه أن يوقف تلك الدموع، التي ما فتئت حتى أضعفت ناظريك.. وكم كنت عطوفاً على الخدم والسائقين، فقد كنت لا تَطعم حتى يطعموا وتأبى إلا أن ينادى كل واحد منهم باسمه بدلاً من السائق أو الخادمة، وكم كنت ترفض أن يكلفوا من العمل ما يطيقون فضلاً عما لا يطيقون، وكم كنت موجهاً لهم لجميل الأخلاق والصفات حتى ذهبوا إلى ديارهم وهم سفراء لهذا الدين بفضل الله، ثم بفضل حسن التعامل معهم، وكم كنت مداعباً وممازحاً لأحفادك الصغار حتى وهم يعبثون بأدويتك وأجهزتك الطبية، ولم تمنعك حالتك الصحية والنفسية من الابتسامة لهم وحملهم وتقبيلهم، والدعاء لهم بالصلاح.. وكم كانت لك من وقفة مع مسكين أو أرملة أومطلقة، وكم سعيت في حاجتهم حتى تقضى، وكم من شفاعة وخطاب لتقديمه للجهات الخيرية قد أُسْدي لهم، وكم تأثر هؤلاء المساكين لفقدك، وقد كنت الملجأ لهم - بعد الله - وصمام أمان لهم من صروف الدهر، وكم نَهل من علمك طالب علم ومن جميل أخلاقك وصفاتك قد استفاد، ومن تواضعك ولين جانبك قد أنِس، وكم تخرج على يديك من الطلاب - الذين ما إن يسمعوا بذكرك إلا وقد ارتفعت أكفهم بالدعاء لك - حتى تسنموا ذرى المناصب في الدولة، فأصبح منهم أصحاب المعالي والمديرون والرؤساء والأساتذة الجامعيون والقضاة والمعلمون والخطباء.. وكم لجأ إليك - بعد الله - طالب علم يريد شفاعة منك لمواصلة تعليمه أوالتوسط له في النظر في موضوع درجاته المتحصَلة أو تقديمه لوظيفة معينة.. وكم مرة فرجت همَّ متصلٍ بل وأصلحت أمره، ووصلت ما انقطع بينه وبين زوجته وأعدت البسمة عليه وعلى أهل بيته.. بل وكم متصل يستفتي قد أنَرت بصيرته حتى وأنت تعاني ما تعاني من الأمراض في آخر أيامك.. وكم كنت حريصاً على لم الشمل وجمع الكلمة وعدم التفرق والبعد عن الشحناء، وكم كنت يا والدي تحب الآخرين وتسامحهم، وتحسن الظن بهم وتذب عن أعراضهم، وقد ظهر ذلك جلياً في وصيتك (رحمك الله) حينما قلت فيها: (وليُعلم أنني أحللت وأبحت كل من أساء إلي أو ظلمني من إخواني المسلمين غفر الله لهم ورحمهم.. وأني قد أحللت كل من عاداني أو وقع في عرضي من المسلمين، وأحللت كل أحد مما بيني وبينه إلا من كان عدواً لله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) وكم تمنَّيتَ منهم أن يسامحوك ويصفحوا عنك وعن خطئك بحقهم من غير قصد (كحال بني البشر) وكم كانت أمنيتك أن يحسن الله لك الختام وأن يعينك على سكرات الموت، وقد تحقق لك - إن شاء الله - ما تريد، فقد كنت بشهادة من حولك قبيل موتك بأيام بل بساعات تكثر من ذكر الله تعالى وتسأله الثبات، ومن جملة ما قلت (آمنت بالله وكفرت بالطاغوت) و(سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) و(أحسنت الظن بالله) و(رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً)... إلخ، ونحن شهود الله في أرضه وكم وكم... فهنيئاً لك يا والدي بهذه الخاتمة مع ما ابتلاك الله به من الأمراض التي لازمتك قرابة الأربعة عشر عاماً، وكان أشدها الأربع السنوات الماضية، وهنيئاً لك هذا الجمع الغفير الذي احتشد من كل حدب وصوب للمشاركة والصلاة على جثمانك الطاهر، فقد جمعت برحيلك كل محبيك من الأمراء والعلماء والمشايخ والقضاة وطلبة العلم والدعاة والخطباء والمسؤولين في شتى وظائفهم ومراكزهم، بل والعاملين والمقيمين على مختلف أجناسهم ولغاتهم - جزاهم الله خيرا - فقد كان يوماً مشهوداً لن تنساه بريدة ولا أبناؤها (البررة) فسوف تتذكره على مر السنين، وتعاقب الدهور، كما تذكرت رفيقي دربك الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي والشيخ الدكتور صالح بن ناصر الخُزيِّم ومن بعدهما الشيخ علي بن عبدالله الجمعة وغيرهم من العلماء الأفاضل (عليهم رحمة الله جميعاً)، وكم هو يوم مهول، ذلك اليوم الذي حملت فيه على أكتاف الرجال والناس فيه تترى وتتزاحم كل يريد أن يظفر ولو بجزء يسير من النعش للمشاركة وتعبيراً عما في النفس، وإحساساً بالألم، كم أسكب رحيلك يا والدي من دمعة وأحزن قلباً، ولكن لا نقول إلا (إنا لله وإنا إليه راجعون) وإنا لفراقك يا أبتاه لمحزونون، وعزاؤنا أن المصيبة اقتسمها المسلمون فهانت علينا...
نسأل الله عز وجل أن يجعلك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كما أساله أن يوسع لك في قبرك وأن يجعله روضة من رياض الجنان، وأن يجازيك بالإحسان إحسانا وبالسيئات عفواً وغفراناً... آمين..
abu-muaz-mns@hotmail.com