Al Jazirah NewsPaper Saturday  08/03/2008 G Issue 12945
السبت 30 صفر 1429   العدد  12945
السطو على الحقوق المعنوية في تعليمنا العالي
د. عبد الله بن ناصر الحمود

كان عقلاء الماضي يقولون (ثوب العارية ما يكسي). وللتوضيح للجيل (الجديد) أقول: إنّ المقصود من هذا المثل الشعبي العميق هو أنّ من ارتدى ثوباً مستعاراً بقي دوماً بحاجة للكساء، وإن غطَّى الثوبُ المستعارُ بدنه، وستر عورته. فما ليس للمرء يبقى دوماً لغيره مهما ظن أنه بحوزته. ومن الآخرين من قد يعرف أنّ أحدهم إنما يرتدي ثوباً مستعاراً، فيُشفق عليه من حالٍ ظن أنه أهل لها، وهو دون ذلك.

لعله من الممكن - عند الحاجة المؤقتة - قبول استعارة بعضنا لممتلكات الآخرين (الحسيّة)، كالسيارة، وأدوات المنزل، وتجهيزات الحفلات مثلاً، ولكن من غير المقبول أبداً الاستعارة الأبدية للحقوق المعنوية، للأفراد والمؤسسات. وأقصد هنا الدرجات العلمية المتقدمة وخصوصاً شهادة (الدكتوراه) التي تضيف قبل اسم حاملها لقب (الدال) بأبعاده المعرفية والمعنوية ذات الدلالة المهمة جداً، أو شهادة (الهندسة) في تخصص ما، مع ما يشير إليها من لقب (الميم) قبل اسم حاملها. وكل ذلك من الحقوق التي يتم اكتسابها، في الأصل، بالجهد والعرق وفق آليات دقيقة ومناهج عميقة، وتمنحها جامعات عريقة بضوابط تخضع للإشراف العلمي الرسمي وتتمتع بمصداقية عالية.

ومن المثير للقلق أننا بتنا نسمع ونشاهد، بمتوالية متكاثرة، عدداً من (المتطفّلين) على موائد (المتعلمين) ممن (استعاروا) (الدال) أو (الميم) بآليات متعددة من جامعات (حقيقية) أو وهمية حول العالم، دون اكتراث لاعتبارات الأمانة والمصداقية في رحلة التعليم، المهنة الأشرف منذ أزل التاريخ. فمنهم من حصل عليها بالمراسلة المحضة، ومنهم من باع واشترى فيها، ومنهم من يتم استغلاله لأدهى من ذلك وأمر. وعلى الرغم من قصور هؤلاء (المستعيرين) عن الإفادة من هذه الشهادة (رسمياً) أو(وظيفياً)، لأنّ جهات التوظيف ونحوها تُخضع تلك الشهادات للمعادلات العلمية، وتدرك هذه النوعية من الشهادات، وتكشف خيوطها ولا تقبلها من مستعيريها، إلاّ أنني أظن أنّ الأمر يحتاج وقفة تأمل.

فقد نجح البعض في التدليس على جهات علمية معروفة بالعمل لديهم عبر مداخل (التعاون) و(التكليف المباشر)، وهي المداخل التي لا تخضع لمعايير المعادلات العلمية المعروفة للشهادات العليا، وانطوت على تلك الجهات حقائق تلك المؤهلات العلمية (المكذوبة). وأسوأ من ذلك، شيوع هذه الحالات، في المجالس والمنتديات وحتى في وسائل الإعلام، ممن تأبّطوا (الدال) و(الميم) من غير أهلهما، حتى ليخيّل للجمهور أنّ المتحدّث من هؤلاء يحمل - فعلاً - درجة الدكتوراه في تخصص كذا، وهو في حقيقة الأمر دون ذلك بكثير. لقد أساء هؤلاء لحقوق مؤسسات التعليم عندنا، وأساءوا كذلك للحقوق المعنوية للمؤهّلين الذين قضوا ردحاً من الزمن بين ردهات الجامعات والمكتبات. وسهروا الليالي بحثاً عن إجابة سؤال، أو تعديلاً لملحوظات لجنةٍ علمية. والخلاصة أنهم أساءوا لمجتمعنا، ولمعاييرنا وسمعتنا العلمية.

والسؤال المطروح هنا، ما دور الجهات المختصة في ذلك؟ وما التنظيمات التي يمكنها أن تقي المجتمع من السطو على هذه الحقوق؟ وكيف يمكن حماية المجتمع من إشاعة جهل هؤلاء، من المضامين والأفكار، على أنّه علمٌ وتخصص؟. أظن أنّ وزارة التعليم العالي، معنيّة بذلك لحماية ذاتها ومنتجها ومجالها، وللذّود عن حياضها من عبث العابثين. إنّ وضع تنظيمات حازمة في هذا الإطار، لكشف المتلاعبين بحقوق الآخرين المعنوية، قد أضحى (ضرورة) اليوم. ولعلَّي هنا أقدم بعض المقترحات.

أولاً، أقدم هنا دعوة خاصة لوزارة التعليم العالي لتتبنّى مشروعاً وطنياً يتمخض عنه نظام يعنى بحماية الحقوق المعنوية لذاتها ولمنسوبيها من الأفراد الذين تقل لديهم المعايير الأخلاقية الذاتية، بحيث يكون هذا النظام بمثابة تشريع قانوني لمواجهة الموقف وحماية المجتمع. فإذا كانت سرقة الأموال والممتلكات جريمة تعاقب عليها القوانين، فإنّ السطو على اللقب العلمي، جريمة أشد وطئاً وأحرى بالجزاء. ثانياً، ربما كان لمشاركة الجمعيات والهيئات المدنية أهمية كبيرة. ومعلوم أنّ وزارة التعليم العالي تحتضن اليوم أكثر من ثمانين (جمعية علمية) في مختلف التخصصات. فقد يكون مناسباً، أن يضاف في نظام (الجمعيات العلمية) الحالي مادة مفادها أنّ من أهداف الجمعية حماية تخصصها العلمي من اختراق (المستعيرين) غير الشرعيين لدرجاته العلمية وبخاصة الدكتوراه، والكشف عن الحالات التي يتم التعرف عليها. وأظن أنّ أهل كل تخصص جديرون بمتابعة مجال تخصصهم ومعرفة أقرانهم وخاصتهم. ثالثا، يمكن أن يصار إلى تنظيم وطني يقضي بإضافة اللقب العلمي (الدال) و(الميم) مثلاً في بطاقة الهوية الوطنية وفق الشروط والضوابط العلمية. وهنا، يتم تفويت الفرصة على المتسولين لهذه الألقاب. وحتى نبدأ الخطوة الأولى .. لعلّ وزارة التعليم العالي تسعى لتنظيم ندوة علمية تدعو لها جميع الجامعات السعودية ونماذج من الجامعات العالمية المحترمة، وتلك التي اشتهرت (بإعارة) الشهادات العليا دون معايير علمية محترمة، ليتم عبر هذه الندوة مناقشة الموضوع من جميع جوانبه والخلوص إلى نتائج عملية لمواجهة الموقف.



alhumoodmail@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7318 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد