الفيلم تاريخ ما إن ينتهي تصوير فيلم ما حتى يتحوّل إلى تاريخ لا أقصد أنه بذلك يصبح جزءاً من التاريخ فقط، بل يصبح هو بذاته تاريخاً.
أيضاً ليس المقصود بكلمة تاريخ هنا أنه يصبح عديم المفعول. الفيلم ليس خبراً في صحيفة لا تستطيع قراءتها بعد
يوم من صدورها، بل هو جزء متفاعل من الحركة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية هنا وهناك وفي كل مكان يُصنع فيه فيلم.
ما إن يتم وضع الفيلم في علبته حتى يكون كل من وقف وراء الكاميرا أو أمامها جزء من هذا العمل، كما أن هذا العمل يصبح جزءاً من كل واحد شارك فيه.
حين نشاهد فيلماً قديماً، لنقل من بطولة عماد حمدي ويحيى شاهين وفيه لجانبهما عبدالوارث عسر لشخصية الرجل الطيّب، وأمينة رزق للحنان الأموي وتوفيق الدقن للشر المدهم، فإننا نتطلّع على مجموعة من الممثلين
الذين لا يزالون يتحرّكون أمامنا حتى من بعد أن توفاهم الله تعالى وتغمّدهم برحمته.
شخصياً أجد ذلك عجيباً كما لو أنك تخبرني أنك خضت بعض ما تبقّى من مجاهل إفريقية فطلع عليك أسد كبير، حدّقت به جيّداً فخاف منك وهرب. عجيب إنما بإيجاب.
السينما هي الفن الوحيد (بل الوسيلة الوحيدة) التي تستطيع أن تضم بين دفّتيها حركة أناس ماتوا. الممثل الميّت لا يستطيع أن يصعد على المسرح من جديد، والفنان الميّت لا يستطيع أن يرسم لوحة جديدة، ولا الكاتب الميّت يستطيع أن يخط كلمة. حتى الواقف أمام الكاميرا الفوتوغرافية الثابتة حركته سواء أكان لا يزال حيّاً أو ميّتاً
معدومة. صورة جامدة. أما السينما فهي الفن والاختراع الوحيد الذي من شأنه إبقاء حركة الموتى قائمة كلّما عُرِض الفيلم على أي من الشاشات سينما أو تلفزيون أو إنترنت. وهذا هو جزء واحد من التاريخ الذي يصنعه الفيلم. تاريخ توثيق فريد شوقي ومحمود المليجي وبوب هوب وجون واين وبروس لي ولورنس أوليفييه وأورسن ولز وأي ممثل آخر مر في تاريخ السينما وهم بالألوف (بحسبان الصغار مكانة منهم أيضاً).
جزء آخر هو تأريخ المادة المصنوعة والمسؤولين عن صناعتها. حين أقدم الرائع أندريه تاركوفسكي على صنع أفلامه اعتبرها (نحتاً في الزمن) وهي كانت كذلك بالفعل، تراها اليوم تجد أنها أعمالاً احتلت حيّزاً من التاريخ لا يستطيع إنسان آخر محوه. كذلك الأمر بالنسبة للمخرجين الكبار بلا استثناء من كوروساوا وأوزو وفيلليني وبرغمان وغودار وآرثر بن وسام بكنباه وعدد كبير آخر من المبدعين. هذا هو جانب آخر من كيفية تحوّل الفيلم إلى تاريخ، إنه يحتل جزءاً منه، يصبح هو ينحت في زمنه ومكانه وكلّما كان جيّداً تجد أن نحته ذاك ليس في زمن محدد أو في مكان واحد، إنه في كل مكان.
والفيلم تاريخ لأنه إذا ما وضعت الخمسين ألف فيلم أو أكثر التي صنعها العالم من العام 1888 عندما تم تصوير
أوّل فيلم في التاريخ (قبل ثماني سنوات من الأخوين لوميير) وكان عنوانه Groundhay Garden Scene ستجد أنك أمام تاريخ حافل يمتد في كل اتجاه ويتطرق إلى كل فكرة ويبحث في كل تجربة، لذلك لا يهم إذا ما كان عمر الفيلم مائة سنة أو سنة.. إنه تاريخ.