أنا واحدٌ من هؤلاء الذين يهوون القيام بجولة حول العالم، أطوف أصقاعه المختلفة، وأزور بلدانه المتعددة، وأتعرّف على الناس بجميع مشاربهم وأهوائهم وثقافاتهم. وحاولت جاهداً وما زلت أحاول في تحقيق ولو جزء يسير من تلك الأمنية. لكن الأمر أصبح عندي في الوقت الحاضر ليس بتلك السهولة والبساطة. فأنا لو تأخرت عن منزلي يوماً ولو ساعة واحدة، لوقفت لي سيدة المنزل ومن خلفها الأولاد على الباب مستفسرين وبانزعاج بالغ عن سبب ذلك التأخير ....
وإن كانت أمنيتي تلك لم تتحقق كاملة بعد، ولم أستطع أن أطوف حول العالم، لكنّني أرى أنه لا بأس من أن يطوف العالم من حولي ...
لقد كان يوماً عالمياً بحق .. ذلك ما حصل معي في أحد أيام الأسبوع المنصرم. زارني في الصباح الباكر في عيادتي رجل من كوريا، ثم أتبعه رجل آخر من بريطانيا وبصحبته زوجته التايلندية، وفي المساء زارتني سيدة أمريكية ثم مريض يونانيٌ ثم سيدة أخرى من البرازيل. وقد جرت عادتي عندما ألتقي بشخص من بلد ما، أن أتبادل معه بإسهاب أطراف الحديث عن بلاده وعادات أهل تلك البلاد .. وأحاول أن يكون الحديث هادفاً حتى لا يكون الأمر على حساب وقتي الثمين في العيادة.
بعد خروج السيدة البرازيليّة دخل زوجان وبصحبتهما طفل صغير .. بعد الترحيب بهما، أخبرني الزوج بأنهم يسكنون في البناء المقابل للعيادة. وهنا انتابني شيء من الخيبة والإحباط، أبعدَ كلّ هؤلاء المرضى يأتيني مريض من بناء قريب لنا وفي نفس الشارع؟. لم ينته يومها الأمر هنا، فالذي حصل معي في نهاية العيادة كان له وقع خاص جداً عندي وأثّر في نفسي بالغ الأثر.
دخلت سيّدة كبيرة في السن بصحبة ابنها الطّبيب. ثم أخذت السيدة تسترسل في الحديث ... وأخبرتني بأنها تعرفني تماماً. فهي من مدينتي ... وكانت تسكن بجانب منزلنا في حارتنا القديمة، وهي صديقة حميمة لوالدتي وقريبة لجدّتي رحمها الله.
راحت تلك السيدة الفاضلة تقصّ عليّ قصصاً ووقائع عن طفولتي أجهلها تماماً. أخبرتني أنها حاكت لي بذلة صوفية صفراء عندما كنت في السنة الأولى من عمري. لكنّ جدّتي أقسمت يميناً أن لا ألبسها حتى لا أصاب بالعين...!. ثم تابعت السيدة حديثها قائلة: كنت قد أهْدَيْتُ والدتك عند ولادتك ثلاث ليرات ذهبية عثمانية قديمة ... ثم أخذت تقصّ عليّ حكايا وحكايا .... ومع حديث السيدة العفوي البسيط الصّادق هذا، رُحْتُ أحدّق في وجهها، وأستمع لحديثها بِشَغْفٍ شديدٍ، وجَلستُ أرقب حركاتها باهتمام بالغ. فهي تقصّ عليّ وقائع تخصُّ طفولتي لم أسمع عنها في حياتي كلها من قبل. لقد كانت تتحدّث بِحُبٍّ جارفٍ، وصفاء ونقاء طاهر ، وتذكر تلك الحوادث بتفاصيلها الدقيقة وكأنها وليدة اليوم. وعند الوداع ... بلا شعور تقدّمتُ نحوها ثم هَمَمتُ بتقبيل رأسها.
عندما عدت إلى المنزل مساءً أخبرت الوالدة بحديث السيدة التي زارتني في العيادة. وأخذت أمّي تتذكر تلك الوقائع أيضاً، ثمّ شمّرت عن زندها وكشفت لي عن إسْوِرَةٍ تزيّن معصمها كانت قد صاغتها في ذلك الوقت من مجموعة ليرات الذهب العثمانية التي أُهْدِيت لها في يوم ولادتي. ثم أشارت إلى ليرات الذهب الثلاثة بعينها التي تلقّتها من تلك السيدة من مجموعة ليرات الذّهب في الإسورةِ أجمع. فما زالت أمّي تذكر صاحبة كل واحدة من ليرات الذّهب. فأمي أيضاً لن تنسى الوفاء وما زالت تذكر صاحبة كل ليرة من تلك الليرات، وتبادلهُنّ نفس المحبة والوفاء.
لا أخفي عليكم أن تلك الصُّدَف والمفارقات الطريفة علّمتني الكثير ... علّمتني أن حُبّ السفر والاطلاع واستكشاف العالم له فوائد كثيرة ... لكنّها علّمتني أكثر أنّ الناس الذين من حولي، والذين لهم أفضالٌ عليّ هم أولى بالمحبة .. وعلّمتني أيضاً أنّ روابط الحُبِّ بين الناس ستبقى قويّة مهما ابتعدت المسافات وانفصمت عُرى تلك الروابط ...
حقاً لقد غدا العالم قرية صغيرة ....