Al Jazirah NewsPaper Sunday  23/03/2008 G Issue 12960
الأحد 15 ربيع الأول 1429   العدد  12960
حرّية (النقد)..نقد (الحرية)..؟
حمَّاد بن حامد السالمي

يترقب المواطنون بشغف كل عام، الخطاب الملكي السنوي من منبر قبة الشورى. الخطاب الملكي الذي عرفناه من الملك المجدد المصلح (عبد الله بن عبد العزيز) حفظه الله، هو رسالة شفافة، تنطلق من قلب مؤمن بما يعتقد ويقول، إلى ملايين القلوب التي تؤمن هي الأخرى بصدق الذي تسمعه منه.

في كل عام شوري جديد، يحدد الخطاب الملكي المضيء، مسارات منهجية على درب الإصلاح والتجديد، وذلك في السياستين الداخلية والخارجية، ويعرض أمامنا رزمة جديدة من الإصلاحات المبهجة، التي ما إن يُعلن عنها في هذا المنبر، حتى تتحول إلى واقع ملموس على التراب الوطني، في هذا الجزء أو ذاك من بلادنا الطيبة.

* وفي الخطاب الملكي الشوري هذا العام - إلى جانب عرض سياسات الدولة في التنمية العامة، والتصدي لكثير من التحديات المحلية والإقليمية والدولية - تبرز مسألة جديدة مهمة، هي بكل تأكيد، في صلب (المشروع التجديدي الإصلاحي)، الذي نهض به الملك المفدى حفظه الله، ليس بعد توليه مقاليد الحكم فقط، ولكن منذ ولايته للعهد. إنها مسألة الرأي. الرأي بداية، والرأي نهاية، والرأي فيما بينهما، فالرأي قبل شجاعة الشجعان كما يقال، والرأي الذي لا تسنده حرية خالصة في التعبير، يموت في مخاضه الأول قبل أن يولد، ومن الثمار الطيبة للرأي، النقد.. نقد الذات أولاً، ونقد العام ثانياً. بدون النقد الذي يقوم على التقييم بهدف التقويم، تفقد المجتمعات توازنها حقيقة، فتتقهقر وتتأخر، وتنضوي سراعاً تحت سطوة الكبت وتكميم الأفواه. هذا التوجه المعلن من الملك المفدى، في قضية تتعلق بالرأي وحرية التعبير، تجدد في ذهنيتنا الوطنية، مشروع الحوار الوطني، الذي تبناه حفظه الله قبل عدة أعوام، فأصبح علامة فارقة، في توظيف كافة الأطياف والرؤى المذهبية والفكرية، لصالح اللحمة الوطنية، ونبذ ما عدا ذلك من تصنيفات بغيضة، وتفريزات مشينة، لا يمارسها إلا شاذ منحرف، عدو متربص بكل إنجاز وطني يتحقق.

* إن النقد لا يقوم بدون أرض صلبة من الحرية يقف عليها. الحرية المسؤولة - كما عبر عنها الملك المفدى - تمنح النقد الصادق البناء، القوة المتوجبة لمقاومة قوى التخلف والرجعية، واختراق جدر الوصاية على المجتمعات، حين تصبح الكلمة الناقدة، مأثومة مجرّمة، ويصبح الإنسان الناقد، عنصراً خطراً على قوى الظلام والتكلس. وليس كما عرفه الناس قبلنا، مرآة صافية واضحة، تعكس صورة الواقع الذي يحيط به، بكل ما فيه من حلو ومر. جاء في قول ل(ابن المقفع): (حُقّ على العاقل، أن يتخذ مرآتين، فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه فيتصاغر بها، ويصلح ما استطاع منها، وينظر من الأخرى في محاسن الناس فيحليهم بها، ويأخذ ما استطاع منها).

* حرية النقد، تحمل في جيناتها النفسية، معادلة أخرى تضبط إيقاعها الحركي، ألا وهي (نقد الحرية)، إن الحريات لا تعني بطبيعة الحال الفوضى، ولا التجاوزات العقدية، أو التعدي على حقوق الغير - حريتي تنتهي، حيث تبدأ حرية الآخرين - وليست هي ذلك الانفلات الأخلاقي في السلوك الإنساني، الذي يضيف هماً آخر على الحرية نفسها. إن نقد هذا المسار نفسه - الحرية - هو المعادلة التي تحفظ التوازن لمجتمع حر ناقد، لا يخجل من مراجعة نفسه، والاعتراف بأخطائه، والإصغاء إلى الحلول المطروحة للإصلاح، والعمل من جديد، على ضوء نقد بناء، مواكب لكل خطوة شجاعة إلى الأمام.

* ما أضر بنا شيء، مثل تنزيه الأشخاص، وتورّم الذوات في دواخلنا، مع أن ديننا الحنيف، جاء لكبح الهيمنة، وصد السيطرة، وفك القيود، وحفظ كرامة الإنسان، بما أوجب الله له من حريات عامة وخاصة، وكأننا لم نقرأ سيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه، وسير خلفائه الراشدين من بعده، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يضرب لنا مثلين ساطعين في هذا السياق، كل منهما دال على سماحة الدين، وحفظه لحقوق البشر كافة، من خلال سماع آرائهم، والأخذ بما هو أصلح منها، فهو رضوان الله عليه، يستمع لامرأة تخطئه في المسجد في شأن تحديد المهور، فيعود في رأيه، وينزل على رأي المرأة ويقول: (أخطأ عمر، وأصابت امرأة)، وفي موقف آخر، يضع عمر بن الخطاب نفسه، وهو صاحب رسول الله وخليفته الثاني، قاعدة للحريات في المجتمع الإسلامي، لأن الحرية طبع متأصل في الإنسان، لا تطبعاً منه. يقول: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)..؟ ثم نجد هذا الموقف المرسخ للحريات عند الخليفة الرابع، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فقد قال في أمر الخوارج: (إن سكتوا تركناهم، وإن تكلموا حاججناهم، وإن أفسدوا قاتلناهم)، وهو القائل في مناسبة أخرى: (لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حراً).

* إن حياة المسلمين، لا عبودية فيها، إلا لله عز وجل، (لا إله إلا الله). بهذه العبودية للخالق جل وعلا، تنتهي كل العبوديات، لأنها عبودية محضة لله عز وجل، وفي الوقت نفسه، تنطلق منها كافة أنواع حريات الإنسان المسلم، حين يصبح قادراً على التحكم في طريقة حياته، ويحفظ على نفسه إنسانيته، ويرسم برأيه كافة سلوكياته. إن الشريعة الإسلامية، جاءت من أجل تأمين حرية الإنسان وتكريمه، قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) الإسراء 70. فهناك ترابط بين الحرية والكرامة، لأنه لا كرامة بدون حرية، ولا حرية بدون كرامة. الإسلام أراد للبشر، أن يعيشوا خارج نطاق الاستعباد والأسْر، أحراراً أعزاء مكرمين. والإسلام سمح بحرية إبداء الرأي، والتعاطي نقداً في الشأن العام، بضوابط وشروط، حتى لا تنتقص الحرية من حقوق الآخرين.

* الملك المفدى في هذا الأمر، يضرب المثل بنفسه لبقية أبناء شعبه، حين يعود إلى المحاسبة مع النفس. إنه النقد الذاتي المستظل بظل الحرية. الحرية والأمن، شيء واحد لا ينفصل أحدهما عن الآخر. إذا توفرت الحرية في المجتمع، توفر الأمن كذلك، وإذا توفر الأمن بالمجتمع، توفرت الحرية. أن تقول كل ما تعتقد بشكل بناء ونظيف وهادف، أنت تحتاج في واقع الأمر، إلى حرية تسمح لك بذلك، وحتى تتوفر هذه الحرية المطلوبة، لا بد من الأمن الذي يدفع عنها غائلة التوحش من كشف الحقيقة، ونزعة التبرم من قول الصدق، وحالة الخوف المستبد، ليس من النقد فقط، ولكن من حرية النقد ابتداءً.

* لقد توفر لهذه البلاد، هامش جيد من حرية الرأي والفكر، لم يكن هذا ليكون، لولا شخصية الملك عبد الله بن عبد العزيز التنويرية، وفكره التطلعي، وفلسفته التقدمية، وسياسته القائمة على فتح الأبواب المغلقة، وشعوره بأن حرية الإنسان، هي خلق نبيل، وقيمة ثمينة. يقول أبو متعب في خطابه الجميل مؤخراً:

(... الحرية تكون في التفكير والنقد الهادف المتزن، والمسؤولية أمانة لا مزايدة فيها ولا مكابرة عليها، فبها بعد الله، نصون حريتنا، ونحدد معالمها، ونقول للعالم: هذه قيمنا، وتلك مكارم أخلاقنا التي نستمدها من ديننا).

* جاء في قول للمفكر المغربي (علال الفاسي): (الحرية هي مجموعة العمل النفسي، للتوفيق بين الإرادة وبين المعرفة، وليست مجرد شعور ثابت، بل هي أعظم صفات الوجدان الإنساني، لذلك فالحرية الأساسية، هي حرية الاختيار، ومنها تطل كل الحريات الأخرى).

* إن الطرح الذي تبناه الملك المفدى حفظه الله من مجلس الشورى في هذا العام، يجعل من الحريات العامة والخاصة والنقد، مسألة مبدأ في المشهد العام، خاصة وهو ينطلق في ذلك من منبر شوري، تطرح تحت قبته قضايا ومصائر الناس، وتناقش بين لجانه، أفكار ومشاريع كثيرة، وتصدر عنه تنظيمات شتى، فالشورى معني قبل غيره، بتقبل النقد، وممارسته قولاً وعملاً، وتوفير أكبر قدر من هامش الحرية في الرأي والرأي الآخر، فالخطاب الملكي من هذا المنبر، يؤكد من جديد، على الحريات العامة والخاصة، ويدعم نهج النقد المنضبط بشروطه، ويعزز مسؤولية كل فرد في المجتمع، في أن يكون حراً بكامل المسؤولية، فيما يقول ويطرح، وناقداً بكامل الصدق والأمانة، من أجل البناء لا الهدم.



assahm@maktoob.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5350 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد