Al Jazirah NewsPaper Monday  24/03/2008 G Issue 12961
الأثنين 16 ربيع الأول 1429   العدد  12961
احتلال العراق.. إلى أين هذا الجنون؟
د. عبد الرحمن الحبيب

كان الرئيس الأمريكي جورج بوش قد صرح قبيل الاحتلال الأمريكي للعراق أنها لفترة قصيرة، ثم تنتهي المهمة بسلام، مثله في ذلك مثل مزاعم مشعلي الحروب في كل الأزمنة.. لكن ها هي عذابات العراقيين دخلت عامها السادس.. وها هو بوش يعلن قبل أيام:

(أن القوات الأمريكية ستعمل دون كلل لملاحقة الإرهابيين، وسيكون هناك قتال عنيف في الأسابيع القادمة..).. إنها أسابيع.. فترة قصيرة مرة أخرى!!؟

منذ القدم أثبتت التجارب أنه يمكن بسهولة بداية الحرب، لكن لا يمكن التكهن بنهايتها ولا بنتائجها.. والاحتلال الأمريكي للعراق بدأ بكذبة، ويستمر بقاؤه على كذبة تلو أخرى.. وفيما أكد بوش أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر أمنا والعالم أصبح أفضل بعد الإطاحة بصدام حسين، فإن واقع الحال يوضح بجلاء أن العالم أصبح أكثر اضطرابا، وأن الضمير العالمي أصبح أقل إنسانية.. أما منطقة الشرق الأوسط فإنها غدت في فوضى مرعبة وتواجه مجهولا أكثر رعباً..

هل صحيح أن العالم أصبح أفضل باستخدام القوة العسكرية؟ وهل حلَّ الهجوم العسكري أية أزمة في منطقة الشرق الأوسط؟ وهل الديموقراطية يمكن جلبها بالجيوش وبالاحتلال الأجنبي؟ لا الاحتلال الأمريكي، ولا الاجتياحات الإسرائيلية على لبنان أو غزة، ولا الهجوم الأثيوبي على الصومال ولا التهديد بضرب إيران.. كلها لم تثمر سوى مزيد من المآسي والفوضى، ناهيك أنها لا تستند على أية شرعية دولية أو أخلاقية.

مسلسل التخبط الأمريكي مستمر، لقد أشعل اليمين الأمريكي المتطرف الحرب، ولم يعرف ما بعد ذلك سوى الإخفاق تلو الآخر.. فلم تكتف الحرب بمجرد الإطاحة بنظام، بل تم إسقاط الدولة بكاملها تقريبا؛ بدءاً بإسقاط الجيش والشرطة وتاليا بتدمير كافة المؤسسات الأخرى.. وحتى عند إنشاء حكومة مؤقتة وقتئذ، لم يكن لها قوة على أرض الواقع وبالتالي لم تمتلك القدرة والإمكانات لإدارة شؤون البلد، سوى مكانة التبعية لقوات الاحتلال.. وعندما تشكل مجلس الحكم كان وصفة للإثارة الطائفية والقومية والاحتراب الداخلي وتكريس الخلافات عبر نظام المحاصصة على أساس مذهبي وعرقي وليس على أساس وطني..

وحاليا وإلى هذه اللحظة لا يثير مؤتمر المصالحة الوطنية سوى الشفقة في ظل سوء الأوضاع وتراكم الخلافات.. فما الذي يمكن أن يفعله هذا المؤتمر إذا كان الغائبون أو المغيبون عنه أكثر من المشاركين؟ وهنا، يتساءل نائب رئيس قسم الأبحاث في أيغروثغلوبال بواشنطن: ما الذي نفعله الآن للتحرك نحو الأمام؟ لأننا لا نستطيع أن نعمل أي شيء بصدد التكاليف التي حدثت، ولا نسمع أشخاصا يتكلمون عن ذلك!

لقد اتضح عدم وجود خطة أو استراتيجية مع بداية الحرب، ولا يوجد مثل ذلك حتى الآن، كما صرح السناتور الديموقراطي تشارلز شومر بأن الإدارة الأمريكية تفتقر لاستراتيجية لخروج القوات الأمريكية وليس لديها خطة واضحة للمصالحة الوطنية ولا حساب للتكاليف الاقتصادية! حتى وصل الأمر أن تتباين وجهتا النظر بين الجمهوريين والديموقراطيين في مسألة العراق لهذه الدرجة، فيما اعتدنا عدم وجود خلاف مهم في السياسة الخارجية بينهما، في الوقت الذي يعد به المرشحان الديموقراطيان باراك أوباما وهيلاري كلنتون بسحب القوات الأمريكية من العراق..

وبالمقابل فإن أكثر ما يردده اليمين الأمريكي هو التحذير من الفشل في العراق باعتباره خطراً على الولايات المتحدة وتهديداً لمصالحها واحتمال تعرضها للهجوم من قبل أعدائها.. وينتقد هؤلاء اليمينيون كل نقاد هذا الاحتلال ودعاة الانسحاب من الديموقراطيين، بأنه لا يوجد لدى هؤلاء سوى نقد لاذع بلا حلول واضحة! ولكن ما الذي يمكن طرحه عدا النقد الحاد للإدارة الأمريكية الحالية؟ وهل ثمة أمل في هذه الإدارة بأن تستفيد من الدروس، وتتراجع عن سياستها التي كبدت المنطقة خسائر جمة؟ لا يبدو في الأفق إلا تأكيد الجمهوريين على الاستمرار في الاحتلال حتى لو اقتضى الأمر بقاء الاحتلال مئة عام في العراق، كما صرح المرشح الجمهوري جون مكين.. يا لهذه الحرب، عندما بدأت قيل إنها لأسابيع وأصبحت لأجيال!

لم يكن المشروع الأمريكي مدمراً للعراق فقط، بل كان مدمراً للتوازنات الهشة في المنطقة.. كانت إيران تعاني من جارين ثقيلين شرقاً وغربا.. طالبان في أفغانستان وصدام في العراق، فأزاح المشروع الأمريكي هذين الجارين لكي تتنفس إيران الصعداء، ويمتد تنفسها إلى أبعد من محيطها.. ومع لعبة المحاصصة الطائفية والعرقية في العراق واحتقان المنطقة كان لإيران أن تعلن وجودها الاستراتيجي كلاعب أساسي بالمنطقة، وهذا حقها الذي وفره لها المشروع الأمريكي دون أن يدري أو يدري..

هنا تدخل إيران بمفهومها الديني المحافظ للسياسة، ويتراجع الإصلاحيون في إيران، ويغدو المزاج الانفتاحي للأطراف الأخرى في المنطقة العربية ضعيفا أمام احتقان المشاعر والمد المحافظ الإيراني الذي يستدعي مدَّا محافظا معاكسا في المنطقة العربية، وهذا يفسر - جزئيا - عودة الروح للفكر الأصولي في المجتمعات العربية، ويتضح أكثر في الدول ذات التمثيل البرلماني كما في الكويت والأردن ومصر.. إذ يحق للمجتمعات التقليدية أن تناقض المشروع الأمريكي الذي لم تر منه غير الدمار، ويحق لها أيضا أن تخشى المشاريع الوليدة الناشئة منه، خاصة الطموح الإيراني.. يحق لها أن تخاف من خلل التوازن الذي اعتادت عليه، عندما يكون هذا الخلل تهديداً لوجودها.

إلى أين تسير المنطقة؟ يستمر طرح السؤال الصعب الذي يواجه الجميع: ما العمل؟ الانسحاب الفوري للقوات الأمريكية يعد وصفة لمزيد من الفوضى.. البقاء لأجل غير محدد يكرس الفوضى، وينشر مزيداً منها لدول الجوار، ناهيك أنه غير شرعي وغير إنساني! الانسحاب المجدول والمبرمج لا تظهر له خطط واضحة في ظل النزاع الداخلي ونفوذ المليشيات والتدخلات الأجنبية وضعف الحكومة الحالية.. إن الاعتقاد بأن ثمة حلاً بدون خسائر كبيرة هو وهم كبير.. كل الحلول المطروحة تتضمن خسائر فادحة، لذا يتعدل السؤال إلى: أي الخيارات أقل فداحة؟

وفيما تحل الذكرى الخامسة لاحتلال العراق ثقيلة وكريهة على الجميع، هل تستطيع الإدارة الأمريكية الحالية أن تصيغ لنا حلا، طالما أنها هي التي صنعت الكارثة؟ لا رجاء في هذه الإدارة ولا فرص متاحة معها للسلام في الشرق الأوسط، ولن تسنح هذه الفرص إلا بقدوم إدارة جديدة عقلانية تراعي مصالح دول المنطقة واحترام مشاعر شعوبها، وتتفق مع القوى العالمية والإقليمية في توحيد عقلاني لوضع خطط سلام واضحة تشمل مواجهة العنف والتطرف من قبل كافة الأطراف في المنطقة بما فيها العنف الإسرائيلي.



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد