Al Jazirah NewsPaper Friday  04/04/2008 G Issue 12972
الجمعة 27 ربيع الأول 1429   العدد  12972
الواسطة.. المفهوم الخاطئ
مالك ناصر درار - جدة

إن الترابط على المستوى الفردي والجماعي في مجتمع ما يعمل على مد آفاق التلاحم بين فئاته المختلفة وبالتالي يشكل إحدى أهم لبنات البناء الذي يسمو لبنة لبنة حتى يعانق عنان السماء ويورث النماء والرخاء والاستقرار لأفراد ذلك المجتمع.

ومجتمعنا السعودي توارث مفهوم التلاحم منذ الفتوحات الأولى التي قاد رايتها مؤسس هذا الكيان الشامخ الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- فلمّ شتات القبائل وأخمد فتيل الحروب وألهب همم الرجال نحو البناء والتعمير فحولوا الصحاري القحال إلى مصانع ودور علم وواحات خضراء خلابة فكان النماء بكل معانيه وساماً يسود سواد البلاد ولا تزال عجلة البناء تدار بكل اقتدار في العهد الزاهر الميمون وذلك لإكمال مسيرة البناء التي أوصى بها المؤسس الأول لهذا الكيان. لقد أضحت هذه البلاد - بفضل الله تعالى - تقارع أرقى الدول في العالم المعاصر وعلى جميع المستويات وهذا السبق ما هو إلا ثمرة وشائج الوحدة التي بددت القبلية وأخفت معالم الجغرافية الإقليمية وصهرت الميول والاتجاهات في قالب الأسرة الواحدة وهذا ما تم توثيقه في كتاب GE بقلم الكاتب Arabia Phoenex والذي تمت طباعته في Rald Degaury عام 1946م ولم تنشأ هذه الوحدة من فراغ وإنما تحققت نتيجة وعي ودراية ببواطن الأمور من قبل المؤسس الأول الذي أدرك بنظراته الشمولية أبعاد المعادلة النظامية لبلد بكر تقارب مساحته الإجمالية مليونين وربع المليون كيلو متر مربع وحمل لواء المسؤولية من بعده رجال عاهدوا الله على الحفاظ على مكتسبات خطط لها بحنكته ودرايته ولا يزالون فكانت الوحدة أكثر تماسكاً وصلابة وصار هذا الكيان المترابط يزخر بقيادات إدارية وميدانية وفي شتى المجالات ومختلف أنماط المعرفة والعلوم.

وأبحرت - ولا تزال - سفينة البناء بقيادة قبطانها خادم الحرمين الشريفين تمخر عباب المحيط الدولي وترسو هنا وهناك في بحار المعالي وعلى ضفاف تحقيق الأهداف التي تصب في قالب الصالح العام للوطن والمواطن.. ولا شك أن المواطن هو لبنة للمجتمع. وتوعية هذه اللبنة بالمعنى الصحيح للمواطنة والوطنية الحقة تجعل منه صالحاً غيوراً على الحفاظ على مكتسبات وطنه بعيداً عن الأنانية الذاتية التي تقود في الغالب إلى تحقيق مصالح فردية حتى لو تضاربت مع أهداف الصالح العام.. وبنظرة فاحصة يتضح جلياً السبب الذي أوجد مثل هذا التضارب أنه وبكل تأكيد الشفاعة غير الحسنة، أو ما تم التعارف عليه الآن ب(الواسطة) وعلى النقيض من ذلك فالشفاعة الحسنة إحدى روافد تعزيز مفهوم الترابط بين مختلف فئات المجتمع وبرزت على السطح بشكل محبب للنفس لكون إنفاذها مقروناً بمخافة الله، وتوالت أطروحات المفاهيم والخلط والمزج بينهم رغم التباين في المسار والنهج حتى جاء من ينحو بالشفاعة منحى آخر مغايراً للمفهوم الأصل، فبرر أخيراً ما تعارف الناس علي بالواسطة - وتم للأسف تشوه المفهوم السامي للشفاعة الحسنة حينما تم نعتها بالواسطة.

لقد شاع استعمال هذه المفردة المشتقة (والواسطة) بين جيل اليوم وصار لها مدلولات تتعارض جملة وتفصيلاً مع المفهوم الحقيقي للشفاعة الحسنة بل إنها - بمفهومها الحالي - لا تقل خطراً عن ذلك الفيروس القاتل الذي ينخر أعضاء الجسم السليم لفترة معينة حتى يرديه قتيلاً، واستفحل الأمر كثيراً عندما صار من المسلمات سماع ترنيمة (أي خدمات.. أنا في القطاع الفلاني) ومكمن خطورة هذه العبارة السائدة حتى بين جيل المثقفين - هو الإيعاز بأن فرداً من العامة قد لا يتمكن من إنهاء إجراءات معاملة خاصة به بسهولة ما لم يكن على صلة أو معرفة بأحد الموظفين في ذلك القطاع هذه الترنيمة - إن جازت العبارة - أزاحت الستار عن ما يسمى الآن ب(مكاتب الخدمات العامة) التي صار يرتادها فئة من الناس لإنجاز معاملاتهم لقاء مبلغ من المال يدفع جزء منه للمكتب والجزء المتبقي يدفع للمعقب الذي في الغالب يعاقب المراجع العادي عفواً أقصد يكافئ المراجع العادي عن طريق تمكينه من امتطاء صهوة حصان الروتين المعقد قد يختتم بمقولة (راجعنا بكرة) فينتكس المسكين على عقبيه ويبدأ البحث عن أحد مكاتب الخدمات العامة!! أؤكد هنا أن إفرازات داء الوساطة لم ولن يقتصر على بروز ما يسمى بمكاتب الخدمات العامة فقط، ولكن بدأت الساحة تستقبل سماسرة الكسب المادي غير المشروع ونخشى لاحقاً أن تفشى داء الرشوة والراشي والمرتشي والواسطة بينهما لن أسهب في الحديث عن الجوانب السلبية لما يسمى بالواسطة، فكلها سلبية وكلها قاتمة ولا أخالها تخفى على أحد، نعم فقد أثبتت الوقائع أن الواسطة قد أحدثت خللاً وشرخاً قد يصعب مع الوقت ترميمه. فهي - الواسطة - قد تخدم مصالح معينة ولكن في نفس الوقت تلحق الضر بأخرى وفي الغالب يكون الضرر ضروباً من ضرور الظلم وهنا يكمن الخلل لقد استشرت هذه الظاهرة في جميع المصالح في جميع القطاعات، وفي جميع المرافق بل ودلفت إلى ردهات المنازل ونامت قريرة العين في مظاريف فاخرة وقراطيس ناصعة وتنزهت عبر الأثير وتراقصت بين الحناجر والفكوك وصارت تجوب الفيافي تنخر هنا وهناك تصول وتجول تهدم وتعطل المصالح وتضيع الأوقات وتلحق الأذى بالكثير وتوجد أنماطاً من الإخلال الوظيفي وأحياناً تشعل فتيل الشحناء، لقد صار الزهو شعاره والخيلاء وسامها والنياشين لحافها الوثير، كيف لا والرقيب خارج الساحة ينتظر بحرارة إذن المشرع ليخوض غمار الإصلاح.. ينتظر مؤازرة من يلبي نداء الواجب للذود عن عرين (الهدف الواحد) الذي نادى به الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- لقد حان الوقت لتحجيم منبت نشأة (الوساطة) وبتر جذورها والإجهاز عليها ليظل عقد التواصل مع العدل ميزاناً للحق الذي بدوره يكفل إيجاد نوع نموذجي من التوازن في المجتمع.. إن توعية المواطن عن طريق وسائل الاتصال السمعي والمرئي والمقروء في النطاق المحلي بسلبيات الواسطة وأنها مظهر غير حضاري لكفيل بتحجيم نطاقها وبالتالي القضاء عليها فيما لو صدر من الجهات العليا في الدولة ما ينص صراحة على اتخاذ عقوبات وإجراءات صارمة بحق من يثبت ضلوعه بشفاعة تلحق ضرراً.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد