Al Jazirah NewsPaper Sunday  13/04/2008 G Issue 12981
الأحد 07 ربيع الثاني 1429   العدد  12981

مقتطفات من تاريخ المنطقة الشرقية
خالد النزر

 

شرق الجزيرة العربية أو ما يُعرف اليوم بالمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، هو الإقليم الذي كان يُعرف تاريخياً باسم (البحران) أو (البحرين) (النسبة إليه بحراني)، وهو الممتد من البصرة شمالاً إلى ساحل عمان جنوباً (الإمارات حالياً) ومن مياه الخليج شرقاً إلى الدهناء ونجد غرباً. الذي كانت أهم حواضره ومسارح أحداثه هي:

1- هَجَر وقراها، وهي الأحساء حالياً. فكان مسمى هجر في كثير من الأحيان يطلق على الإقليم بأكمله لشهرة هذه المدينة، كما كانت تسمية الأحساء في أحد الحقب التاريخية المتأخرة تطلق أيضاً على كامل الإقليم.

2- الخَط وقراها، وهي القطيف حالياً، وكانت تمتد بلداتها ومزارعها من رحيمة شمالاً إلى جنوب الظهران، حسب بعض النصوص التاريخية والوثائق(1). والقطيف تشمل أماكن غائصة في عمق تاريخ الجزيرة العربية، كجزيرة تاروت (دارين) وثاج ومدينة الزارة ومدينتي الخط والقطيف القديمتين، وكانت أيضاً تسمية الخط تشمل في بعض الأحيان كامل الشريط الساحلي لإقليم البحرين، بل وأحياناً يشمل أيضاً ساحل عمان حتى الشجر.

3- جزيرة أوال وما يتبعها من جزر وقرى، وهي التي انفردت لاحقاً باسم البحرين، وأصبحت دولة مستقلة تحمل اليوم اسم مملكة البحرين.

يعتبر هذا الإقليم من أقدم بقاع الأرض التي عرفت الاستيطان البشري، لدرجة أن الباحث البريطاني (السير ويلسون) ورغم اعتماده في دراساته وأبحاثه على آثار مملكة البحرين، إلا أنه نظراً للترابط التاريخي ونظراً لكون جزيرة أوال جزءاً من سواحل المنطقة الشرقية من الناحية التاريخية. فقد رأى بأن هذه السواحل كانت مأهولة بالجنس البشري منذ حوالي خمسين ألف عام (2). وكذلك كان للبعثة الدانيماركية في ستينيات القرن الميلادي الماضي، دوراً في لفت الأنظار للقيمة التاريخية والآثارية المهمة لهذه المنطقة، حيث أجرت عدداً من الدراسات الميدانية لعدد من المقابر والمعابد والنقوش والرسوم والأدوات، في حوالي عشرين موقعاً في المنطقة الشرقية. إلا أن المكتشفات المحلية التي أجريت لاحقاً خاصة على أيدي أبناء المنطقة النشطين في متحفي الأحساء والدمام، أسفرت عن نتائج متقدمة ومواقع أثرية مهمة وصلت للمئات، وزيارة بسيطة للمتحف الوطني في العاصمة الرياض تبين للمهتمين والباحثين بأن نسبة كبيرة من المادة المعروضة تعود لمواقع من هذه المنطقة. وكان إقليم البحرين عموماً مقراً للعديد من السلالات السامية القديمة كالكنعانيين ومنهم الفينيقيين والعمالقة، والكلدانيين والآشوريين والعبرانيين وطسم وجديس وكندة وغيرهم مما يعرف بقبائل العرب البائدة، إضافةً إلى تواجد أعراق وأجناس أخرى مثل النبط والزط والسيابحة والجرامقة والعيلاميين وغيرهم من الأعراق الآسيوية الوسطى. إلى أن تكونت القبائل العربية القديمة وبدأت بالانتقال إلى البحرين منذ عهد مملكة حمير في اليمن، ثم في فترة انهيارات سد مأرب، ثم هجرة القبائل العدنانية من تهامة الحجاز مروراً باليمامة إلى البحرين، فكانت ومازالت هذه المنطقة من أهم المناطق الجاذبة في الجزيرة العربية. وكان من أبرز وأهم القبائل العربية التي سكنت البحرين هم الأزد وإياد وقضاعة وحلف قبيلة تنوخ التي أقامت حلفها في هجر ثم انتقلت للعراق، وقبائل تميم خاصة بنو سعد، وقبائل ربيعة الفرس خاصة بكر ابن وائل وعبد القيس، حيث كانت الأخيرة من أشهر قبائل البحرين على الإطلاق فعرفت هذه المنطقة بعبد القيس وعرفوا بها، كما كان لهم الدور الرئيسي في دخول المنطقة في الإسلام وكذلك الدور الرئيسي في أغلب الأحداث التاريخية بعد ذلك، وصولاً إلى فترة وجود قبائل عامر بن صعصعة في بادية البحرين، خاصة أثناء الحكم القرمطي والدولة العيونية. ثم استقرار العوامر خاصة بنو عُقيل في الحواضر والجزر وسيطرتهم على حكم المنطقة وذلك بقيام إمارة آل عصفور ثم آل جروان ثم آل جبر من عوامر نجد، وصولاً لسيطرة آل حميد الخوالد وحلفائهم من بني لام وغيرهم. ثم تواجد القبائل الحديثة في بادية المنطقة مثل آل مرة والعجمان وبني هاجر وغيرهم، وذلك بعد تحضر أغلب القبائل التي سبقتهم (3)، في المدن والقرى الحضرية بالمنطقة أو هجرة بعضهم إلى خارج المنطقة باتجاه العراق وإيران أو باتجاه حواضر نجد.

الأديان السائدة في المنطقة عند ظهور الإسلام

المسيحية:

كانت المسيحية منتشرة في إقليم البحرين وخاصة في قبائل ربيعة وفي عبد القيس على وجه التحديد، وهناك من يعزو ذلك إلى التأثر المباشر بالعراق حيث كانت المنطقة في بعض مراحلها التاريخية تتبع لمملكة الحيرة. ويُذكر بأن النعمان ابن المنذر اعتنق المسيحية في عام 593م وكان يعتبر نفسه من حماة المذهب النسطوري الذي كان مركز انتشاره والتبشير به هو مدينة سلوقية على نهر دجلة، فانتشر في العراق وقبائلها وكذلك في بلاد فارس وجميع البلاد المحيطة، فكان هو المذهب المسيحي السائد في إقليم البحرين إضافةً للمذهب اليعقوبي. وقد ذكرت المصادر التاريخية وجود عدد من الأسقفيات في كل من هجر والخط ودارين وسماهيج، وكانت تحت إشراف مطرانية المنطقة التي تعرف باللغة الآرامية ببيت قطرايا(4).

الوثنية:

لاشك بأن الوثنية كانت الديانة الأقدم والأكثر انتشاراً في المنطقة من المسيحية، وذلك لأن العديد من الحضارات التي شملت هذه المنطقة في العصور القديمة كان لها علاقة بالوثنية بشكل أو بآخر. ويذكر بأن من أشهر التماثيل التي تم العثور عليها في المنطقة الشرقية هو تمثال (عشتاروت) التي كانت تمثل أحد آلهة الفينيقيين، وقد عثر عليه عام 1966م بجزيرة تاروت التي يُعتقد بأن اسمها مشتق أو محرف عن هذا الاسم. هذا وقد شاركت به المملكة ممثلة بإدارة المتاحف في عام 2003م بمتحف Metroplitan of Art في نيويورك بالولايات المتحدة، ففاجأ المهتمين وكان له أهمية خاصة ونشرت عنه مجلة Art of First Cities كما أثار هذا التمثال القائمين على المتحف فبرموا مع المملكة عقد استعارة لمدة سنتين ظل معروضاً خلالها في المتحف حتى أعيد مرة أخرى عام 2005م(5).

وعودة للوثنية، فقد كانت تعج بها الجزيرة العربية بشكل عام بما فيها البحرين التي ضمت قبائلاً عربية كانت في أصولها وثنية، وإن اعتنق الكثير منها المسيحية فيما بعد. وقد كان من أهم أصنام المنطقة هو (ذو اللبا) التابع لقبيلة عبد القيس وسدنته منهم بنو عامر، وكان قائماً في المشقر بهجر. كذلك كان من أشهر أصنام قبيلتي بكر وتغلب هو صنم (أوال)، كما كان صنم (المحرق) لسائر قبائل ربيعة من بني وائل وعنزة وغيرهم(6)، ولهذين الاسمين ارتباطاً بالمنطقة حيث تحملهما أهم جزيرتين في مملكة البحرين الحالية.

المجوسية (الأسبذية)(7)

وهي ديانة أتت كما يبدو مع سيطرة الإمبراطورية الساسانية على المنطقة في عهد أردشير بن بابك شاه الذي طالت فتوحاته كامل بلاد فارس والبلاد المجاورة وكان في عهده بداية السيطرة الفعلية على إقليم البحرين بعد حصار وقتل ملكها المحلي (سنطرق) ودخول الجيش مدينة جرّه أو هجر(8). وبهذا كان العالم بأكمله آنذاك منقسم ما بين الفرس والروم كما كانت الجزيرة العربية وقبائلها منقسمة أيضاً ما بين هاتين القوتين. وقد كانت المجوسية في إقليم البحرين عبارة عن الدين الرسمي للدولة، يدين به مرزبانات وعساكر وعمال السلطة والذين في أغلبهم وفدوا مع الدولة الجديدة، كذلك كانت المجوسية هي ديانة أصحاب المناصب وذوي الاحتكاك المباشر بعناصر الدولة مثل بنو عبدالله بن دارم من بني تميم والذين كان منهم المنذر ابن ساوى حاكم البحرين باسم الدولة الساسانية، والذي كان مع أسيبخت (مرزبان هجر) ممن راسلهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانا من أوائل مجيبي دعوته في المنطقة. وممن عرف من مجوس البحرين أيضاً زرارة بن عدس والأقرع بن حابس.

اليهودية:

يعتقد بأن اليهودية من الأديان القديمة في المنطقة وهي تعود على أقل تقدير لعهد الملك تبّع بن حسان والذي كان له أمراء في البحرين منهم الحارث بن عمرو، أو لعهد نبوخذ نصّر (بختنصر) وتشريده ليهود العراق الذين انتشروا في عدة مناطق مجاورة منها هذه المنطقة. وإضافة لذلك فقد كان للبحرين صلاتها الثقافية والتجارية المباشرة بالعراق أو اليمن ويثرب، حيث كانت الديانة اليهودية تنتشر في هذه الأماكن. كما يبدو بأن اليهود في البحرين كان منهم كبار تجارها آنذاك، حيث اشتهر منهم (ابن يامن) أحد أكبر مالكي سفن الغوص ومزارع النخيل. هذا وهناك بعض المقابر التي تم العثور عليها في المنطقة ويعتقد بأنها تعود لأصحاب الديانة اليهودية. هذا وقد كان في الهفوف حتى أواخر العهد العثماني الأخير تواجد لبعض اليهود، إلا أن بعض كبار السن العارفين، يقولون بأن العناصر اليهودية التي سكنت الهفوف في فترات متأخرة كتجار أو أطباء وموظفين حكوميين إنما كانوا عراقيين بالأساس، فأتوا مع الحكومة العثمانية ورحلوا معها كما هو حال أصحاب المناصب الحكومية العليا في الأحساء آنذاك. وهذا يتوافق تماماً مع ما ورد في (دليل الخليج) للبريطاني ج ج لوريمر بداية القرن الميلادي الماضي.

وهناك ثلاثة شخصيات دينية شهيرة قبل الإسلام، لها علاقة بهذه المنطقة، نتطرق لهم قبل الحديث عن دخول المنطقة في الإسلام. وقد ذكر المسعودي أن جماعة من أهل التوحيد ممن قر بالبعث، بين المسيح ومحمد في الفترة، وقد اختلف الناس فيهم، فمن الناس من رأى أنهم أنبياء ومنهم من رأى غير ذلك. وعدد عدة أسماء كان من بينهم بحيرا الراهب ورئاب الشني.

1- بحيرا الراهب: وهو من قبيلة عبد القيس وفي المسيحية اسمه (سرجس أو جرجس). وقد مر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين كان ابن 12 عاماً مسافراً مع عمه أبو طالب في تجارة إلى الشام، فعرف النبي بصفته ودلائله وما كان يجده في كتابه ونظر إلى الغمام تظله حيثما جلس، فأنزلهم بحيرا وأكرمهم واصطنع لهم طعاماً ونظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه، فآمن به وأخبر عمه بالأمر وحذره ونصحه بالرجوع به.

2- رئاب الشني: وهو من بني شن من عبد القيس أيضاً، وكان من الموحدين المشهورين في الجاهلية على دين عيسى ابن مريم عليه السلام. وقال عنه المسعودي: (وممن كان في الفترة: رئاب الشني، وكان من عبد القيس، ثم من شَن، وكان على دين المسيح عيسى بن مريم عليه السلام قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعوا منادياً ينادي من السماء قبل مبعث نبي: خير أهل الأرض ثلاثة: رئاب الشني، وبحيرة الراهب، ورجل آخر لم يأت بعد، يعني النبي عليه السلام وكان لا يموت أحد من ولد رئاب فيدفن إلا رأوا واسطاً على قبره)(9).

3- الكاهن سطيح: وهو الشخصية الثالثة من هذه المنطقة وكان قد سكن الشام، والذي كان من مشاهير كهّان العرب في عصره، وكان من المتنبئين بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وعند حديث ابن كثير عنه، روى عن السحستاني أن سطيح كان من أهل البحرين حيث قال: (سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا:.... وكان مسكنه البحرين، وزعمت عبد القيس أنه منهم، وتزعم الأزد أنه منهم، وأكثر المحدثين يقولون هو من الأزد. ولا ندري ممن هو، غير أن ولده يقولون إنه من الأزد). ومن أشهر قصص سطيح هو تنبؤه بسقوط ملك الساسانيين في بلاد فارس مع تحديد عدد الملوك المتبقين وذلك في عهد كسرى أنوشروان، وكذلك تنبؤه عن ملوك اليمن وما يحل بهم حتى عهد سيف بن ذي يزن. كما رُوى عن ابن عباس قوله: (قدم مكة - أي سطيح - فتلقاه جماعة من رؤسائهم، منهم عبد شمس وعبد مناف...... فسألوه عما يكون في آخر الزمان فقال: خذوا مني ومن إلهام الله إياي: أنتم الآن يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشو من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم، ويتبعون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم. ثم قال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد نبي مهتد، يهدي إلى الرشد... الخ).

هذا وقد نقل نسبه عن ابن عساكر كالتالي: هو الربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن الأزد(10).

دخول المنطقة في الإسلام

في بداية ظهور أمر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن العديد من أبناء الجزيرة العربية أخذوا يتتبعون أخباره، فمنهم من لم يسلم لأسباب مختلفة وهؤلاء هم الأغلبية، أما القلة فهم من دخلوا في الإسلام طائعين غير مكرهين عليه. ومن هؤلاء القلة، جملة من أهل البحرين الذين دخلوا في الإسلام منذ وقت مبكر ومهدوا لدخول باقي أهالي المنطقة آنذاك في الإسلام حتى أصبحت البحرين هي ثاني منطقة تدخل في الإسلام بعد المدينة المنورة وقبل فتح مكة. فبنى فيها مسجد جواثا الذي جاء خبره في البخاري: (عن أبي جمرة الضبعي عن ابن عباس أنه قال: إن أول جمعة جُمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله، في مسجد عبد القيس بجواثا من البحرين)(11). وفي قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} ذكر البعض المفسرون أن الذين أسلموا طوعاً في السماء هم الملائكة والذين أسلموا طوعاً في الأرض هم الأنصار وعبد القيس. والطبري أضاف عليهم بنو سليم (12). لذلك حين وفاده قبيلة عبد القيس من البحرين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عنهم: (يا معشر الأنصار أكرموا إخوانكم فإنهم أشباهكم في الإسلام، أشبه شيئاً أشعاراً وأبشاراً أسلموا طائعين غير مكرهين ولا موتورين إذ أبى قوم أن يسلموا حتى قتلوا)(13).

وتعود قصة بدء إسلام أهالي البحرين إلى ما قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وقيل أن ذلك كان في نفس عام الهجرة. وهي أن المنذر بن عائذ بن الحارث العبدي (الذي لقبه النبي بالأشج لشحةٍ في وجهه) كان صديقاً لراهب ينزل بدارين فكان يلقاه في كل عام فأخبره بأن نبياً يخرج بمكة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه علامة ويظهر على الأديان وبعدها مات هذا الراهب. وعند سماع الأشج بخبر محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام بعث بابن أخته وزوج ابنته عمرو بن عبد القيس ببعض التمر والملاحف وأرسله إلى مكة للتجارة وأوصاه بالتحقق من أمره. فقدم عمرو مكة وأتى النبي بتمر وقال له هذا صدقة فلم يقبله، فبعث إليه بغيره وقال هذا هدية فقبله، وتلطف حتى نظر إلى ما بين كتفيه فدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام فأسلم وعلمه سورة الفاتحة وسورة العلق، وقال له أدع خالك إلى الإسلام. ثم رحل إلى هجر وبحوزته كتاب من النبي إلى جماعة عبد القيس فلما وصل كتمه أياماً، فلاحظته امرأته وهو يصلي ويقرأ فأنكرت عليه ذلك وذكرته لأبيها فقالت: (أنكرت بعلي منذ قدم أنه يغسل أطرافه ويستقبل الجهة فيحني ظهره مرة ويحني جبينه مرة ذلك ديدنه منذ أن قدم). فتلاقيا فتحدثا فوقع الإسلام في قلب الأشج ثم قام إلى قومه من عصر ومحارب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأه عليهم فوقع الإسلام في قلوبهم (14). ثم بعد الفتح وبدء انتشار الإسلام قامت قبيلة عبد القيس البحرانية بوفادتها الرسمية الأولى على النبي، ويرأس الوفد المنذر بن عائذ (الأشج). ولهذه الوفادة روايات طويلة وتفاصيل كثيرة وقد ذكر منها كل من البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه فدونوها برواياتها وطرقها المختلفة التي لا يتسع لها المجال. كذلك كان لعبد القيس وفادة ثانية، لها أيضاً رواياتها، وفيها أسلم الصحابي الجليل الجارود بن عمرو ابن المعلا، كما ذكر في الوفادة الثانية من أهالي البحرين من هو ليس من عبد القيس مثل سلمة بن عياض الأزدي. وفي بعض الروايات عن الوفادة الأولى، أن النبي هو من طلب من الأشج أن يرسل وفداً من البحرين يأتيه بالمدينة، أو أنه كتب إلى أهل البحرين أن يقدم إليه عشرون رجلاً فقدموا عليه يرأسهم الأشج(15).

وقد بدأ النبي عليه وآله الصلاة والسلام في إرسال الرسل والرسائل إلى الملوك والأمراء في أصقاع الأرض، فحفظ لنا التاريخ بعضاً من نصوص رسائله إلى أهل البحرين، نذكر منها:

1- إلى المنذر بن ساوى بن هشام التميمي حاكم البحرين:

فقد قام النبي بإرسال العلاء بن عماد الحضرمي إلى المنذر ومرزبان هجر، فكان نص رسالة المنذر: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام على من اتبع الهدى أما بعد. فإني أدعوك إلى الإسلام فاسلم تسلم، أسلم يجعل الله لك ما تحت يديك، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر)، وبعد حوار دار بينه وبين العلاء حول طبيعة الدين الجديد ومقارنته بالمجوسية قال المنذر للعلاء: (قد نظرت في هذا الذي بين يدي من المُلك فوجدته للدنيا، ونظرت في دينكم فوجدته للدنيا والآخرة معاً. فما يمنعني من قوبل دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله وعجبت اليوم ممن يرده، وإنه من أعظم من جاء به أن يعظم رسوله). وبهذا أعلن المنذر ومرزبان هجر وكثير من أهل البحرين إسلامهم. فأرسل النبي غلى العلاء أن خذ الصدقة من أغنيائكم فردها في فقرائهم(16).

2- إلى أهل هجر:

قوله عليه الصلاة والسلام: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي إلى أهل هجر. سلم أنتم. فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد. فإني أوصيكم بالله وبأنفسكم ألا تضلوا بعد إذ اهتديتم ولا تغووا بعد إذ استرشدتم. أما بعد فإنه أتاني الذي صنعتم وأنه من يحسن منكم لا يحمل عليه ذنب السيئ، فإذا جاءكم أمرائي فأطيعوهم وانصروهم وأعينوهم على أمر الله وفي سبيله فإنه من يعمل منكم عملاً صالحاً فلن يضل له عند الله وعندي، وأما بعد فقد جاءني وفدكم فلم آت إليهم إلا ما سرهم، وإني لو جهدت حقي فيكم كله أخرجتكم من هجر فشفعت غائبكم وأفضلت على شاهدكم، فاذكروا نعمة الله عليكم)(17).

2- إلى قبيلة عبد القيس:

قوله عليه وآله الصلاة والسلام: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لعبد القيس وحاشيتها من البحرين وما حولها، إنكم أتيتموني مسلمين مؤمنين بالله ورسوله، فعاهدتم على دينه فقبلت على أن تطيعوا الله ورسوله فيما أحببتم وكرهتم، وتقيموا الصلاة وتؤدوا الزكاة وتحجوا البيت وتصوموا رمضان، وكونوا قائمين لله بالقسط ولو على أنفسكم، وعلى أن تؤخذ من حواشي أغنيائكم فترد على فقرائكم على فريضة الله ورسوله في أموال المسلمين).

وفي رسالة أخرى: (من محمد رسول الله إلى الأكبر بن عبد القيس، إنهم آمنوا بأمان الله وأمان رسوله على ما أحدثوا في الجاهلية من القحم وعليهم الوفاء بما عاهدوا ولهم أن لا يحبسوا عن طريق الميرة ولا يمنعوا صوب القطر ولا يحرقوا حريم الثمار عند بلوغه، والعلاء الحضرمي أمين رسول الله على برها وبحرها وحاضرها وسراياها وما خرج منها، وأهل البحرين خفراؤه من الضيم وأعوانه على الظالم وأنصاره في الملاحم، عليهم بذلك عهد الله وميثاقه ولا يبدلوا قولاً ولا يريدوا فرقة ولهم على جند المسلمين الشركة في الفيء والعدل في الحكم والقصد في السيرة، حكم لا تبديل له في الفريقين كليهما والله ورسوله يشهد عليهم).

3- إلى أسيبخت بن عبدالله (مرزبان هجر):

قوله عليه وآله الصلاة والسلام: ( إلى أسيبخت بن عبدالله صاحب هجر، إنه قد جاءني الأقرع بكتابك وشفاعتك لقومك، وإني قد شفعتك وصدقت رسولك الأقرع في قومك، فأبشر فيما سألتني وطلبتني بالذي تحب، ولكني نظرت في أن أعلمه وتلقاني، فإن تجئنا أكرمك وإن تقعد أكرمك، أما بعد. فإني لا أستهدي أحداً وإن تهدي إلي أقبل هديتك، وقد حمد عمالي مكانك وأوصيك بأحسن الذي أنت عليه من الصلاة والزكاة وقرابة المؤمنين، وإني قد سميت قومك بني عبد الله، فمرهم بالصلاة وبأحسن العمل، وأبشر. والسلام عليك وعلى قومك المؤمنين)(18).

هذا ولا نبالغ إن قلنا بأن دخول البحرين في الإسلام أحدث طفرة اقتصادية ساهم في رفع شأن الدولة الإسلامية الناشئة آنذاك، فيذكر بأن العلاء بعث إلى رسول الله مالاً من البحرين يكون ثمانين ألفاً، ما أتاه أكثر منه قبله ولا بعده(19).

وقد كان من أهل البحرين مجموعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورواة لأحاديثه، أشهرهم الجارود بن عمرو، والأشج الذي قال له النبي: (فيك خصلتان يحبهما الله تعالى، فقال وما هما؟ قال النبي: الحلم والأناة)(20)، وزيد بن صوحان العبدي الذي قال عنه النبي: (تقطع يده في سبيل الله ثم يتبع الله آخر جسده بأوله). وصدق رسول الله حيث قطعت يد زيد في يوم جلولاء وقتل بعدها بثلاثين عاماً في يوم الجمل. ومن الصحابة أيضاً: هرم ابن حيان، ومخربة العبدي، وصحار بن عياش، وحكيم بن جبلة، والحارث بن مرة، وأبو نضرة، وإبان المحاربي، وجودان العبدي، وجويرية العصري، وأبو خيرة الصباحي، وعباد العبدي، وعمرو بن مرجوم وغيرهم. هذا وقد شارك من أهالي البحرين في أغلب فتوحات المسلمين في صدر الإسلام خاصة فتوحات بلاد الشرق ومنها: البويب، القادسية، المدائن، جلولاء، الأهواز ومناذر ونهر تيري، فتوحات فارس، فتوحات خراسان، ما وراء النهر، بلاد السغد، بيكند، وقعة الشعب، فتوح السند، فتح إفريقية. بل أن أول غزوة بحرية في تاريخ الإسلام انطلقت من سواحل هذه المنطقة لفتح بعض بلاد فارس وذلك في الولاية الثانية للعلاء الحضرمي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وقد كان القادة حينها ثلاثة، هم الجارود العبدي والسوار بن همام وخليد ابن المنذر بن ساوى. فوصلوا بالجيوش إلى بر فارس ودخلوا اصطخر إلا أن الهربذ قائد أهل فارس قام بخدعة عسكرية فحال بينهم وبين سفنهم فوقع الجيش الإسلامي في مأزق كبير، فخطب فيهم خليد وما قاله: (السفن والأرض لمن غلب فاستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) وأجابوه إلى ذلك فصلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالاً شديداً في أرض تدعى طاوس فجعل السوار يرتجز ويقول: (يا آل عبد القيس للقراع، قد حفل الأمداد بالجراع، وكلهم في سنن المصاع، يحسن ضرب القوم بالقطاع) حتى استشهد، فجعل الجارود يرتجز ويقول: (لو كان شيئاً أمما أكلته، أو كان ماءً سادماً جهرته، لكن بحراً جاءنا أنكرته) حتى استشهد، أما خليداً فكان يرتجز ويقول: (يا آل تميم اجمعوا النزول، وكاد جيش عمر يزول، وكلكم يعلم ما أقول)، وهكذا أحرق القوم سفنهم وكادوا أن يبادوا عن بكرة أبيهم لولا تدخل جيش عتبة بن غزوان الذي بعث به الخليفة عمر بعد معرفته بالأمر، حيث قام بعزل الحضرمي عن البحرين بسبب هذه الغزوة خاصة وأنه كان قد نهى الولاة عن الغزوات البحرية، فقام العلاء بهذه الغزوة دون أخذ الإذن(21). كما كان لأهل البحرين دور رئيسي في غزوة بحرية أخرى كانت موجهة لفتح كورفار وكرمان(22)، جمعت مقاتلين من قبيلتي عبد القيس والأزد في البحرين وعمان، وذكر بأن عدد الأزد وحدهم كان أربعة آلاف، ثلاثة من أزد عمان، وألف من أزد البحرين(23). بل إن القائد الإسلامي الذي قاد هذه المعركة وغيرها من بعض معارك العراق، وهو هرثمة بن عرفجة الأزدي، ترجم له البعض على أنه من أهل البحرين(24).

المنطقة وفترات الفتن

كانت وفاة النبي عليه وآله الصلاة والسلام من أشد اللحظات على المسلمين آنذاك، وكان من الفتن التي تعرض لها المسلمون هو ارتداد الناس عن دين الله بحجة وفاة رسول الله. وقد كانت المنطقة جزءاً من تلك الأحداث حيث ارتد من أهل البحرين خلق كثير منهم بكر ابن وائل وتميم وغيرهم خاصة وأن المنذر ابن ساوى كان قد توفي في نفس العام وكان المنذر ابن النعمان ابن المنذر قد طمع في استرجاع ملك أبيه فاستغل الفرصة بوفاة النبي وبدأ بمد خيوطه إلى البحرين. فكان ممن ثبت في البحرين هم عبد القيس الذين وقف فيهم الجارود بن عمرو وهو من زعماء وخطباء البحرين ومفوهيهم آنذاك، فقال: (تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى؟ قالوا نعم، قال تعلمونه أو ترونه؟ قالوا لا بل نعلمه، قال فما فعلوا؟ قالوا ماتوا، قال فإن محمداً مات كما ماتوا وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، قالوا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإنك سيدنا وأفضلنا). فحدثت عدة تصادمات بين المرتدين وعبد القيس في هجر والقطيف والخط ودارين، وكان من أشد المواقف هو محاصرة مجموعة من عبد القيس في قرية جواثا حتى كادوا أن يموتوا من الجوع فأخذوا يستنجدون بخليفة المسلمين آنذاك وغيره من أمة الإسلام في مدينة رسول الله، في قصيدة لعبد الله بن حذف جاء في مطلعها:

(ألا أبلغ ابا بكراً رسولاً

وفتيان المدينة أجمعينا

فهل لكم إلى قوم كرام

قعود في جواثا محصّرينا)

وهكذا وصل جيش الحضرمي إلى البحرين واستقرت الأوضاع بعد عدة معارك بدأت بهجر وانتهت بدارين(25).

هذا وقد كان لأهل البحرين وقفة قوية إلى جانب الإمام علي رضي الله عنه، ورغم وجود أسطورة محلية في الأحساء تقول بأن الإمام علي كان قد زارها وتنسب إليه بعض المواضع، إلا أننا لم نطلع على أي نص تاريخي يثبت هذا القول. وعلى كل حال لعل الاحتكاك المباشر بالعراق جعل شخصيات من هذه المنطقة تدخل كعنصر بارز في تلك الأحداث التي حصلت بالعراق في عهد الإمام علي. فالجدير بالذكر هو أن بعض أهالي البحرين هاجروا إلى المدن الحديثة التي أُنشئت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بالعراق وهما البصرة والكوفة، حيث أصبحت البصرة بالذات مركزاً عسكرياً وتجارياً رئيسياً على الخليج، فأثر ذلك على بلاد البحرين التي كانت تجارتها تصل للصين وكان بها أحد أشهر أسواق العرب (المشقر)، لذلك تمت بعض الهجرات باتجاه البصرة حتى أصبحت قبيلة عبد القيس تشكل خمس أخماس البصرة، وفي نفس الوقت كان هؤلاء البحارنة على اتصال مباشر بمناطقهم الأصلية بل وبقوا يعرفون في البصرة والكوفة بالهجريين(26).

وهكذا كان الوضع مثلاً مع أبناء صوحان، زيد وصعصعة وسيحان الذين هم من مواليد البحرين المقيمين في البصرة والمشاركين في الجمل، بل إن قبيلة عبد القيس كانت من المكونات الرئيسية لجيش الإمام علي في الجمل، فقد اعتزلت عبد القيس إلى علي إلا رجلاً! فإنه أقام، والمقصود هنا بلاشك عبد القيس الذين في العراق، إلا أن هناك من أبناء عمومتهم من انضم إليهم من هجر، فقد جاء في رواية الطبري: (وخرج أمير المؤمنين فيمن معه، وهم عشرون ألفاً، وأهل الكوفة على رؤسائهم الذين قدموا معهم ذا قار، وعبد القيس على ثلاثة رؤساء: جذيمة وبكر على ابن الجارود، والعمور على عبد الله بن السوداء، وأهل هجر على ابن الأشجّ، وبكر بن وائل من أهل البصرة على ابن الحارث بن نهار، وعلى دنور بن عليّ الزّط والسيابجة، وقدم عليّ ذا قار في عشرة آلاف، وانضم إليه عشرة آلاف)(27). وهكذا سنلاحظ مشاركة أهل البحرين في جميع معارك الإمام علي الأخرى كصفين والنهروان، بل ومنهم أقرب الناس إليه كزيد بن صوحان وأخيه صعصعة الذي نفاه معاوية لاحقاً إلى جزيرة أوال حتى مات، ورشيد الهجري(28)، وميثم التمار، وخلاس بن عمرو الهجري وأخوه النعمان، والصلتان العبدي وغيرهم. وبالتالي لا غرابة في انطباع هذه المنطقة بالهوى العلوي، لذلك كان هناك صدام دامي بين هذه المنطقة والخوارج الذين تمركزوا بجانبهم في اليمامة، حيث دخلوا القطيف بعد معركة طاحنة بقيادة نجدة الحنفي الذي أحكم سيطرته فيما بعد على كامل هذا الإقليم الاستراتيجي فأصبح يتحكم بقطع الميرة عن مكة المكرمة حتى راسله عبدالله بن عباس وذكرّه بأن رسول الله نهى ثمامة بن أثال عن قطع الميرة عن مكة وقت شركها فكيف بها اليوم وأهلها مسلمون (29). ثم في عهد أبي فديك الخارجي سيّر عبدالملك بن مروان عام 73هـ جيشاً يضم 10.000 مقاتل إلى البحرين بقيادة عمر بن عبيد الله للقضاء على الخوارج فيها، وبعد قتال عنيف أسفر عن أكثر من 6.000 قتيل، ثم قتل أبي فديك ومحاصرة أصحابه في قصر المشقر بهجر وسيطر الأمويون بالكامل على البحرين. إلا أنهم وجدوا أنفسهم في مكان يجمع بين نقيضين ألا وهم أتباع علي والخارجين عليه، لكن في نفس الوقت كان هذين النقيضين يشتركان في مناهضة الحكم الأموي، لذلك لم تهدأ المشاكل والثورات في هذه المنطقة حتى بعد سيطرة الحكم العباسي.

ما بعد الدولة الأموية

منذ أن دخلت هذه المنطقة في الإسلام ظلت تحت رايته في عهد النبي عليه وآله الصلاة والسلام ثم في عهد الخلفاء الراشدين الذين كان لهم ولاتهم على هذه المنطقة، وكذلك في عهد الدولة الأموية التي تخللها كما ذكرنا فترات سيطرة حركة الخوارج. أما في العصر العباسي فيبدو أن الأمور لم تكن أفضل لنفس المناوئين في العهد الأموي حتى قيل: (يا ليت جور بني مروان عاد لنا، وان عدل بني العباس في النار)، وقيل فيهم أيضاً: (بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم.. فقد عاد سعر التمر صاعاً بدرهم، فإن قلتم رهط النبي محمد.. فإن النصارى رهط عيسى بن مريم)(30). أما هذه المنطقة بالذات فأصبحت على ما يبدو منفى للمعارضين حتى قال الأعرابي في نفي بختيشوع ومن معه من السادة العلويين وغيرهم: (لما سعى بالسادة الأقمار، بالأمراء القادة الأبرار، ولاة عهد السيد المختار، وبالموالي وبني الأحرار، رمى به في موحش القفار، بساحل البحرين للصغار)(31)، كما قال بن بسام: (تا الله إن كانت أميّة قد أتت.. قتل ابن بنت نبيها مظلوماً، فلقد أتاه بنو أبيه بمثله.. هذا لعمرك قبره مهدوماً)(32). وهكذا كانت هذه المنطقة أرضاً خصبة لكل حركة مناهضة ضد الدولة، فكان صاحب الزنج وهو حفيداً لمحمد بن حكيم أحد الخارجين مع زيد الشهيد، قد توجه من سامراء إلى البحرين وبدأ دعوته بها وتبعه جماعة من أهل هجر وخرج بهم إلى البادية المحيطة، ورغم أن أهل البحرين حاربوه فيما بعد إلا أن دعوته كانت قد توسعت رقعتها إلى العراق التي كانت هدفه الأساسي ومنطلق عملياته العسكرية حتى قضي عليه عام 272 هـ. أما الحركة القرمطية فقد توجهت لهذه المنطقة أيضاً مستغلةً الميول العلوية لأهلها فادعى يحيى ابن المهدي أحد دعاتها، بأنه رسول الإمام المهدي إلى أهل البحرين وأن ظهوره قد قرب ويريد مساعدتهم وأخذ يجمع الأموال منهم، ثم ما لبث أن انضم إليه أبو سعيد الجنابي الذي استمال أغلب أهل البادية وبدأ بتأسيس دولته في البحرين على دماء الكثير من أهاليها خاصة في بداية التأسيس وحروبه وفتوحاته في المنطقة التي أسفرت عن حرق أكبر وأهم مدينتين في المنطقة آنذاك وهما هجر والزارة. وقد استمر حكم الدولة الجنابية (القرامطة) من عام 283 هـ إلى عام 398 هـ تقريباً حيث ضعف أمر الأسرة الحاكمة بعد وفاة الأعصم، وتنقل الحكم بين أتباعهم الذين ظلوا يعرفون بالقرامطة عند المؤرخين، حتى وصل الحكم للعيونيين الذين كان منهم أعوان للقرامطة أيضاً(33)، فأسس الأمير عبدالله العيوني الدولة العيونية بدعم ومساندة من الحاكم العباسي في العراق واستمر حكمهم للمنطقة حتى ضعفوا وسيطر على المنطقة بعدهم أصهارهم وأرحامهم من آل عصفور بن راشد الذين تخلل حكمهم فترات سيطر بها السلغريون في إيران، ثم حكم بعدهم آل مغامس ثم جروان وبنوه ثم آل جبر ثم السيطرة البرتغالية عن طريق مملكة هرمز بإيران، ثم السيطرة العثمانية وفتراتها المتقطعة التي امتدت حتى يوم 5-5-1331 هـ وهو يوم دخول الملك عبدالعزيز آل سعود إلى الأحساء، تخللها سيطرة لآل حميد الخوالد وكذلك سيطرة الدولة السعودية الأولى والثانية.

*وقد تميزت هذه المنطقة بأنها حوت فسيفساء من الاتجاهات الفكرية، حيث كانت الأحساء بالذات مركزاً منيراً للعلم والعلماء يقصدها طلاب العلم من جميع دول الخليج والسواحل الإيرانية المقابلة ونجد وغيرها من البلاد، حتى أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب كان قد قضى فترة من حياته لطلب العلم في الأحساء. فلا أبالغ إن قلت أن الأحساء هي المدينة الوحيدة في العالم حسب اطلاعنا التي حوت خمسة مذاهب إسلامية بين ظهرانيها هم الجعفرية والمالكية والشافعية والحنفية والحنبلية. فقد كانت الأحساء مثار إعجاب أو استغراب للكثير من الناس في تلك العصور بل وقد يكون ازدراء أيضاً من بعض ضيقي الأفق. وفي وصف بن علوان لهذه الحالة في الأحساء عام 1120 هـ يقول: (هي بلدة عظيمة البناء واسعة الرحاب كثيرة المياه تشمل على عيون جارية وآبار معينة ومساجد وعلماً وصلحاء ورعايا، الجميع سمة العرب. محصولها النخيل وجل غلالها التمر.... إلى أن قال: نصف أهلها شيعة ونصفها سنة ومتحدين اتحاد الأهل من غير عناد وكذلك قراها وكافلها وواليها وحاميها يقال له الشيخ سعدون من عرب خالد ووزيره شيعي يقال له الشيخ ناصر)(34).

وقبل الختام لا يفوتني ذكر بعض الهامات الشعرية في تاريخ هذه المنطقة، مثل طرفة ابن العبد والتلمس والمثقب والممزق وعمرو بن قميئة والصلتان العبدي (شاعر الإمام علي) وزياد الأعجم والأعور الشني وكعب الهجري وأبو جويرية ومحمد بن ثمامة العبدي ويحيى بن بلال العبدي وقطري ابن الفجاءة وعيسى بن عاتك والأعصم، وجمال الدين علي بن المقرب العيوني ويعتبر ديوانه وثيقة تاريخية نادرة لهذه المنطقة.

الهوامش:

1- هناك العديد من النصوص الواردة في شرح ديوان ابن المقرب وأبيات شعره، التي ذكرت الظهران على أنها من بلدان القطيف العامرة. وحسب الدراسات المتأخرة يظهر بأن الظهران كانت منطقة تضم عدة قرى. وقد نشر الأستاذ المسلم عام 1410 ه وثيقتين تعودان للعهد العثماني أحدهما في عام 985 ه والثانية في 1040 ه، وقد ذكر في الأولى عبارة: (لواء الظهران)، بينما تدلان كلتاهما على أن سيهات المعروفة حالياً كانت قرية تتبع الظهران آنذاك (راجع كتاب القطيف واحة على على ضفاف الخليج ص34و35). أما الأستاذ الجنبي فقد نشر مؤخراً تحقيقه ل(قانون نامه لواء القطيف) وهو الجزء الخاص بمنطقة القطيف من (دفتر الطابو رقم 282) لعام 959 ه الصادر عن الحكومة العثمانية، وقد ورد به سبع قرى عرّفت بأنها (ناحية الظهران) (راجع مجلة الساحل ع1 ص34). هذا وفي الظهران والدمام كانت آثار بعض مزارع النخيل ماثلة للعيان حتى وقت قريب جداً. كما أن الظهران هي من أهم المواقع التي تم العثور فيها على مدافن قديمة تعود لعهد ديلسون، إضافة إلى آثار أخرى.

2- ويلسون، السير أرنولد. الخليج العربي مجمع تاريخي من أقدم الأزمنة حتى أوائل القرن العشرين، ص63

3- هناك بعض الكتابات المتأخرة التي تدعي بأن قبائل المنطقة القديمة لم يبقَ منها أحداً اليوم خاصة عبد القيس، ويتحدث هؤلاء عن أن القرامطة كانوا قد هجّروا عبد القيس من المنطقة. والحقيقة أن هذا الكلام غير دقيق على الإطلاق، فصحيح بأن المنطقة مفتوحة والهجرات منها وإليها تحدث على مر التاريخ، ولكن ليس بالصورة التي يصورها هؤلاء بحيث تخلوا من أهلها الأصليين أو يتم تبديلهم!!. فهؤلاء أولاً يعتمدون على بعض الكلمات التي وردت في شعر ابن المقرب من أبيات الفخر والحماسة، ولم يلتفتوا لعبارات أخرى في شعره تدل على وجود عبد القيس بكثافة في المنطقة، بل لا أبالغ إن قلت بأن أغلب ديوانه كان يتحدث عن عبد القيس بما فيهم قبيلته. هذا إضافة إلى أن عبد القيس تحضروا في هذه المنطقة منذ حلولهم بها وزاولوا الزراعة وركوب البحر وليس بالسهولة إخراجهم وإجلائهم من أرضهم على الطريقة البدوية. وأخيراً فهناك العديد من النصوص التاريخية التي تخالف هذا القول ومنها رحلة ابن بطوطة في القرن السابع الهجري الذي تحدث فيها عن أهل الأحساء وأن أغلبهم من عبد القيس، هذا ناهيك عن أن أهل مكة أدرى بشعابها.

4- اليسوعي، الأب لويس شيخو. النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية ص 28

5- زودني بهذه المعلومات بعض المختصين في المتحف الإقليمي بالدمام وعلى رأسهم الأخ الأستاذ نزار العبدالجبار.

6- الحموي، ياقوت. معجم البلدان ص 188 و1516 و1555

7- هناك نصوص تاريخية تشير إلى أن الأسبذية هي عبادة الخيل، وأخرى تنسبها لقرية اسمها أسبذ بالبحرين، وغير ذلك من الأقوال. ونرى بأن الأسبذية هي نفسها المجوسية أو مذهب من مذاهبها، وقد كان مجوس عُمان والبحرين يعرفون بالأسبذيين بغض النظر عن سبب التسمية.

8- وصف المؤرخ اليوناني (أرات يوسينيوس) في القرن الثالث قبل الميلاد، مدينة عظيمة في شرق الجزيرة العربية وقريبة من ساحل الخليج كان الإسكندر المقدوني يفكر في غزوها. وقد ترجمها جملة من المؤرخين بأن اسمها هو جرهاء أو جرعاء، وقد قرأت للأستاذ الملا تسميتها ب (جِرّه) أو (جرهاء) (تاريخ هجر ج1 ص114). إلا أن إحدى الدراسات الحديثة للباحث عبدالخالق الجنبي (لم تنشر بعد) توضح بأن الاسم هو بالفعل (جِرَّه) وأنها تجريف لمسمى هجر المدينة المعروفة تاريخياً، والذي حدد موقعها في دراسة سابقة له (كتاب: هجر وقصباتها الثلاث)، بأنها كانت ملاصقة لجبل القارة بالأحساء وأن قصر المشقر الشهير كان يقع في نفس موقع رأس القارة اليوم.

9- المسعودي. مروج الذهب ص 23

10- ابن كثير، اسماعيل بن عمر. البداية والنهاية ص 1578 (الفراغ متعمد للاختصار).

11- صحيح البخاري، ج1، ص215. وجواثا هي قرية دارسة في الأحساء معلوم موقعها، وقد تم التنقيب عن ما يعتقد بأنه المسجد المذكور، ويفد إليه الكثير من الزوار والسياح.

12- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط3، ج3، ج128. وجامع البيان عن تفسير آي القرآن، للطبري، ج6، ص567

13- مسند أحمد ابن حنبل ج3، ص432

14- راجع: الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر العسقلاني، ص534. والطبقات الكبرى لابن سعد ص1083. وشرح صحيح مسلم للنووي ج1، ص181. وشرح صحيح البخاري للكرماني ج1، ص211

ودارين مسمى كان يطلق على جزيرة تاروت بالقطيف، وهو اسم لقلعة قديمة كانت بها، وقد بقي اسم دارين يطلق على مكان الفرضة بتاروت. ثم تكونت في نفس الموقع قرية صغيرة في القرن الماضي بعد انتقال جماعة إليه من قطر يرأسهم النوخذة الشهير محمد بن عبدالوهاب الفيحاني، ومازالت القرية معروفة باسم دارين حتى يومنا هذا. أما عصر ومحارب فهما من بطون قبيلة عبد القيس.

15- راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ص143. ونهاية الأرب للنويري ج18، ص65 و66

16- راجع: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلفاء الراشدين، لمحمد حميد الله ص112 ومكاتيب الرسول لعلي الأحمدي ص143 والسيرة الحلبية لعلي الحلبي ج3 ص300. والطبقات الكبرى لابن سعد ص857

17- راجع: فتوح البلدان للبلاذري ص33. وتاريخ اليعقوبي ص137. والطبقات الكبرى لابن سعد ص126

18- ابن سعد، الطبقات الكبرى ص126 و130 وراجع أيضاً تاريخ الحركات الفكرية لعبدالرحمن الملا ص57 و58

19- البلاذري فتوح البلدان ص33

20- راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ص1081. والاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبدالبر ص44

21- الطبري، محمد بن جرير. تاريخ الأمم والملوك (الكرمي)، ص662

22- البلاذري، أحمد بن يحيى. فتوح البلدان ص155

23- الصحاري، سلمة بن مسلم. الأنساب ج2 - ص123

24- الزركلي، خير الدين بن محمود. الأعلام ص 1286

25- الطبري. مصدر سابق ص519 إلى 522

26- راجع: ابن دريد في الاشتقاق عند حديثه بني عبدالله بن زيد من بني عبدالله بن دارم في البصرة ص76. والذهبي في سير أعلام النبلاء وذكره للهجريين في الكوفة عند حديثه عن رشيد الهجري ص440

27- الطبري، مصدر سابق. ص820

28- هناك من يشكك في نسبة رشيد الهجري لهجر البحرين اعتماداً على نص تاريخي يذكر بأنه من هجر اليمن ولعله النص الوارد عند السمعاني في الأنساب، إلا أن هناك العديد من الشواهد التي تخالف هذا القول وتشير إلى أنه من هجر البحرين ولكن المجال لا يتسع هنا لذلك.

29- ابن الأثير، الكامل في التاريخ ص 721

30- البلاذري، أنساب الأشراف ص512. والأبيات هي لأبي عطاء السندي. مروان

31- الطبري، مصدر سابق ص1916

32- ابن كثير، البداية والنهاية ص591 والأبيات لعلي بن بسام البسامي وقالها حين هدم المتوكل قبر الإمام الحسين عليه السلام.

33- ظهرت كتابات عديدة تحاول نسب العيونيين لمذهب معين على حساب آخر وأن ذلك كان سبباً في ثورتهم على القرامطة، والحقيقة أن من العيونيين من كان في جيوش القرامطة كبشر بن مفلح العيوني الذي ورد ذكره في شرح ديوان ابن المقرب. كما أن نقود الدولة العيونية كان ينقش عليها هذه العبارة: لا إله إلا الله محمد رسول الله علياً ولي الله (راجع كتاب: نقود الدولة العيونية في بلاد البحرين، لنايف الشرعان).

34- بن علوان، مرتضى. رحلة مرتضى بن علوان (تحقيق د.سعيد آل عمر) ص 98

كاتب وباحث سعودي - قسم التاريخ بجامعة وورلد الأمريكية

khaled.nazr@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد