Al Jazirah NewsPaper Friday  18/04/2008 G Issue 12986
الجمعة 12 ربيع الثاني 1429   العدد  12986
موقع العقل في مرجعية الإسلام!
محمد بن عيسى الكنعان

جميل أن تطرح فكرتك بوضوح من خلال منبر إعلامي صريح كصحيفة (الجزيرة)، والأجمل أن يكون بين من يقلب سطرك ويقرأ حرفك صديق (فوق العادة)، لا تقف حدود الصداقة معه عند (خطوات الرفقة)، بل تتعداها إلى تحقيق أبرز سمات الصداقة الواقعية، التي تجسدها المقولة العظيمة (صديقك من صدقك)، فضلاً عن كونه زميل عمل، وصاحب حرف، وقارئاً متميزاً يلتهم الفكرة بعقل واع ٍ ويترجمها بمنطق وافٍ، لهذا أحتفي بنقده وأعتز برأيه، فمثله مثل المعيار في قياس الخطأ الفكري بحيادية جادة وموضوعية حادة، حتى وإن تحول نقاشنا إلى حوار مشاكس على غرار (الاتجاه المعاكس)، وهو ما وقع بالفعل بيني والصديق الناقد، الذي راح ينبش في سطور مقال سابق لي بعنوان : ( الإسلام الليبرالي.. جمال البنا أنموذجاً)، إلى أن وقع على جزئية (المرجعية الحضارية)، التي أشرت لها في المقال سالف الذكر وهي (محور التعارض الرئيس) بين الإسلام والليبرالية، حيث اعترض على تحديد تلك المرجعية، لأني حصرتها بالنسبة للإسلام ب(الوحي الرباني) من قرآن وسنة، بينما اعتبرتها في الليبرالية (العقل البشري)، ووجه الاعتراض لدى صديقي المحاور أن هذا التحديد نفى (العقل) عن مرجعية الإسلام وحصره فقط في الليبرالية، وكأن الإسلام يلغي العقل، وضد العمل به.

استنتاج صديقي يبدو منطقياً لو كانت حيثيات المقال المذكور لا تفسر : ماذا يعني التباين الرئيس في المرجعية بين الإسلام والليبرالية ؟ أو بالأصح: ماذا أقصد بالمرجعية الحضارية ؟ لأن مربط فرس الفكرة هو في كلمة (المرجعية)، من جهة ارتباطها بالبعد الحضاري الذي يشكل كل شؤون الدين ومناحي الحياة، ومن جهةٍ أخرى علاقتها بالوحي الرباني أو العقل البشري، فأقرب قاموس لغوي يقول إن هذه الكلمة مشتقة من (المرجع)، الذي هو (الرجوع) إلى الأصل، قال تعالى: {إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. والرجوع هو الردود، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}. والرد إلى الله جل جلاله أو رسوله عليه الصلاة والسلام يعني الرد إلى كتابه (القرآن الكريم) أو (السنة النبوية)، وبهذا تتحدد (المرجعية العليا) بالإسلام في (الوحي الإلهي)، سواءً أكان وحياً جلياً متلواً وهو (القرآن الكريم) ، أو وحياً غير جلي ولا متلو وهو (السنة المطهرة)، وعليه يكون مفهومنا للمرجعية هي (السيادة التشريعية) المحددة بكتاب الله وسنة نبيه، وبهذا لا يكون للأمة أية سيادة فيما نزل فيه نص قرآني أو نبوي، غير أن دور (العقل) هنا في العمل وفق هذه السيادة، أي أنه حجة استدلال وعامل استنباط للأحكام، كونه ينطلق من (النص الديني) ولا يهيمن عليه أو يتجاوزه، فيكون النظر ب(عقل مؤمن) في المنابع الجوهرية والنقية للإسلام (النصوص الدينية)، لفهم أحكام الإسلام واستلهام إجاباتها عن كل ما يستجد في الواقع المعاصر، فتكون كل التشريعات والقوانين التي يصوغها العقل مستمدة من النصوص القرآنية والنبوية، إذا لم يكن هناك نفي للعقل أو إلغاء دوره في الإسلام، ولكن المسألة تتمحور في موقع (العقل) في التشريع وعلاقته بالدين، خاصةً أن العقل نوعان (فطري) وهو العقل الذي يمتاز به الإنسان عن سائر الكائنات، و(مكتسب) الذي يتحقق بالتجربة والتثقيف والتمرس بالحياة، كما أن العقل لا يعرف الحقائق إلا من طريق (الحواس الخمس)، التي يستحيل أن تحكم على أمر غير مادي أو غير محسوس أو غيبي (مستقبلي)، فمثلا ً هذه الحواس لا يمكن أن تدرك ضرر الفواحش، أو نفع الصلاة، أو ما في أقدار الله لعباده، فيكون (النص الديني) هو مصدر التشريع .

على النقيض تماماً نجد أن (المرجعية الحضارية) في الليبرالية محددة ب(العقل البشري)، بمعنى أن (السيادة التشريعية) هي للعقل فقط، وهي سيادة لا تعترف بأي مصدر للوصول إلى الحقيقة أو المعرفة إلا عن طريق العقل، وإخضاع كل شيء لحكمه، سواء ً إثباته أو نفيه، أو معرفة خصائصه ومنافعه، وعليه يرفض الفكر الليبرالي أية وصاية خارجية أو سلطان حاكم على العقل، مثل النصوص الدينية أو الثقافة الاجتماعية، وبذلك يهيمن العقل على كل اتجاهات الحياة فيصوغ كل (القوانين والتشريعات) المنظمة لحياة الناس على اعتبار أنه هو أساس المعرفة، لأجل ذلك لا تصلح (الليبرالية) في مجتمع إسلامي لأنها ببساطة تستبعد النص الديني من التشريع، بل ومن مصادر المعرفة، بينما يعلي الإسلام من شأن العقل في جعله وسيلة النظر وحجة الخبر في النص الديني، بعد كل هذا آمل أن تكون الفكرة وضحت والرسالة وصلت ل(عقل) صديقي أو من يرى رأيه.



Kanaan999@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد