Al Jazirah NewsPaper Saturday  19/04/2008 G Issue 12987
السبت 13 ربيع الثاني 1429   العدد  12987
المعلم والطبيب.. ومكافآت الإذاعة والتلفزيون (3/3)
زهير الأيوبي (*)

تحصلت على شهادة الدراسة المتوسطة (شهادة الكفاية كما يسميها الشيخ علي الطنطاوي عليه رحمات الله) في العام الدراسي: 1954- 1955 من القرن الميلادي الماضي من (تجهيز البنين الرابعة) الواقعة في منطقة (العفيف) وهي بقعة متوسطة بين حي (الصالحية) وحي (المهاجرين) في مدينة (دمشق)، وكان يدير تلك المدرسة التي صار اسمها فيما بعد (ثانوية بورسعيد) الأستاذ (عبدالله نيازي) عليه رحمات الله، والأستاذ (نيازي) هذا هو واحد من الأساتذة المربين الكبار الذين كان لهم دورهم الإيجابي الكبير في جيلي وفي أجيال عديدة قبل جيلي وبعده.

كان الأستاذ (عبدالله نيازي) عليه رحمات الله وهو مربٍّ قدير فذ من أصل مغربي جزائري، يحرص على أن يبقى (مدرساً) رغم كونه مديراً فاعلاً قديراً، ولو لبضع ساعات درسية في الأسبوع.. وكان يدرسنا في ذلك العام مادة (التربية الوطنية) وكان يحرص رحمه الله على أن يكون درسه حافلاً بالمعلومات المفيدة، مليئاً بالفوائد المختلفة المتنوعة.

أذكر أنني سمعت منه لأول مرة هذا البيت المعبر من الشعر:

إن المعلم والطبيب كلاهما

لا (يُبدِعان) إذا هما لم يكرما

وأصل هذا البيت:

لا (ينفعان) إذا هما لم يكرما

ولكنّ الأستاذ (نيازي) رحمه الله كان حريصاً متقصداً أن يقول:

لا (يبدعان) إذا هما لم يكرما

ويعني بذلك أن (المعلم) و(الطبيب) لا يعطيان ما عندهما من المهارة والعناية والخبرة وأسباب التفوق إن لم يحصلا فوق حقوقهما العادلة، على الإكرام والتكريم بالأسلوب المادي والأسلوب المعنوي.

ولعل هذه الطريقة، طريقة الإكرام والتكريم، فوق بذل الحقوق الأساسية، هي الطريقة المثلى لاستجلاب مهارات وعنايات وخبرات وأسباب التفوق من جميع أصحاب المهن والوظائف والأعمال، فالقاعدة نفسها تنطبق على (المهندس) و(العامل) و(الموظف) و(الجندي) و(الفلاح) وغيره..

غير أن الشاعر العربي الحكيم اختار (المعلم) و(الطبيب) نموذجين لما أراد أن يقرره من حكمة وأن يكرسه قاعدة أساسية للحصول على أجود الأعمال وأحسن النتائج، واختار لذلك هاتين (المهنتين) لأنهما تتعلقان بالإنسان مباشرة، أغلى مخلوق على وجه الأرض، وأكرم كيان خلقه الله في أحسن تقويم، فأمّا مهنة (المعلم) فمهنة تخص الإنسان في جانبه الروحي والأخلاقي والسلوكي.

وأما مهنة (الطبيب) فمهنة تخص الإنسان في جانبه المادي وكيانه البدني وتكوينه الجسمي.

***

إنّ مهنة (المعلم) ومهنة (الطبيب) بينهما الكثير من التلازم لأنهما تتعلقان بشقّي الإنسان الأساسيين، الروح والجسم.

ولهذا فإننا نرى في تاريخنا عدداً كبيراً من العلماء الأفذاذ جمعوا بين هذين الميدانين الرئيسيين، ميدان (التعليم) وميدان (الطب) فيما جمعوا من العلوم وقد برزوا في كلا الميدانين..

من هؤلاء العلماء والأعلام الأفذاذ، (ابن سينا) و(الرازي) و(ابن النفيس) وغيرهم وغيرهم...

وإذا أردنا أن نأخذ أمثلة من عصرنا الحاضر الذي نعيش فيه نجد أنه برز في سورية على سبيل المثال عدد من العلماء الكبار جمعوا بين الحسنيين، حسنى (التعليم) وحسنى (الطب) وتفوقوا فيهما، ومن هؤلاء، الشيخ الدكتور (محمد رفيق السباعي) عليه رحمات الله أحد كبار تلامذة الشيخ (بدر الدين الحسني) محدث الشام الأكبر الذي جمع بين الطب وبين تدريس مادة التربية الإسلامية في ثانويات (دمشق).

والشيخ الدكتور (محمد أبواليسر عابدين) عليه رحمات الله الذي وصل إلى منصب (المفتي العام للجمهورية)، وكان إلى جانب ذلك طبيباً له عيادته، وواحداً من أساتذة كلية (الحقوق) في جامعة (دمشق)..

والدكتور (أحمد شوكت الشطي) عليه رحمات الله، وهو والد (وزير الصحة السابق الدكتور إياد) وقد كان أحد أساتذة كلية (الطب) في جامعة (دمشق) البارزين، وهو صاحب عدد من المؤلفات ذات التوجه الإسلامي..

والدكتور (هيثم الخياط) مد الله في عمره، وهو مساعد المدير العام الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، وأحد أساتذة كلية (الطب) البارزين في جامعة (دمشق) وصاحب عدد من المؤلفات الإسلامية.

والدكتور (عارف صدقي الطرقجي) عليه رحمات الله، كان أستاذاً لكرسي (الطب الشرعي) في كلية (الطب) بجامعة (دمشق) وكان نائباً إسلامياً في (البرلمان) في العهد (الديموقراطي) في (سورية).

والدكتور (محمود البرشة) مد الله في عمره أحد الأطباء الناشطين في قسم (الباطنة والغدد)، وهو خطيب الجمعة في أحد مساجد مدينة (دمشق).

والدكتور (محمد راتب النابلسي) وهو طبيب، وأستاذ مادة (الإعجاز القرآني) في كلية (الشريعة) بدمشق وهو صاحب برنامج (أسماء الله الحسنى) الذي يعتبر من أنجح برامج قناة (الرسالة) التلفزيونية الفضائية..

وبالمناسبة فقد كان الشيخ (أحمد كفتارو) عليه رحمات الله (المفتي العام السابق) في سورية، من المهتمين كثيراً في معطيات العلم وخاصة معطيات الطب الحديث، يوليها الكثير من العناية في دروسه العامة.. وقد استطاع رحمه الله التوفيق بشكل ناجح بين قول الرسول عليه الصلاة والسلام (صوموا تصحوا) وبين معطيات العلم الحديث حول التطبب بالصوم، وخاصة الصيام على الماء لمدد مختلفة، وأثبت عليه رحمات الله بالحجة والبرهان والتجربة العملية شفاء الكثير من الأمراض نتيجة الصيام..

وفي بلادنا في المملكة تطالعنا شخصيتان مهمتان بارزتان برزتا في ميدان (الطب) وفي ميدان الثقافة الإسلامية والدعوة الإسلامية وهاتان الشخصيتان هما: الدكتور (محمد علي البار) والدكتور (وليد أحمد حسن فتحي).

وفي (اليمن) السعيد تطالعنا شخصية الداعية الكبير الشيخ (عبدالمجيد الزنداني) رئيس جامعة (الإيمان) والصيدلاني المعروف، الذي تفرّد باكتشاف بعض الأدوية التي عالج بها بعض الأمراض المستعصية.

وفي (مصر) نجد الدكتور (مصطفى محمود) المفكر والطبيب وصاحب أشهر برنامج تلفزيوني يبسط معطيات العلم في سبيل الإيمان، وفي (مصر) أيضاً الدكتور الشاعر (حسان حتحوت) فهو أستاذ، طبيب، شاعر إسلامي له قصائده الفذة.

وإن نسينا فلا ننسى الدكتور (عبدالعزيز الرنتيسي) عليه رحمات الله، الطبيب القيادي في حركة (حماس) الذي قضى شهيداً في سبيل الله مصارعاً للغدر الصهيوني الآثم.

***

أقول: إن التلازم بين وظيفتي (التعليم) ومنها وظيفة الدعوة إلى الله، والإرشاد إلى طريق الهدى والخير والفلاح ووظيفة (التطبيب)، وهما تتعلقان بروح الإنسان وجسده، وكيانه الروحي النفسي الأخلاقي السلوكي، وكيانه المادي الحسيّ الجسدي، إن هذا التلازم أغرى الكثير من الباحثين والدارسين لأن يجمعوا بينهما، ويأخذوا بناصيتيهما، ويتبوؤا أعلى الدرجات ويصلوا إلى أعلى القامات في ميدانيهما.

***

وإذا اتفقنا على أن (المعلم) وكذلك (الطبيب) لا يعطيان خير ما لديهما من قدرات وخبرات وأسباب تفوق إلا إذا أعطيا فوق ما يستحقان من حقوق، وذلك بإكرامهما بكل أنواع الإكرام المادي والمعنوي، واعتبرنا أن ذلك يجب أن يكون أمراً مسلماً في الأحوال العادية، فإن الظروف الحالية القائمة في بلادنا الآن توجب بل تحتم أن نبادر ونسارع إلى إكرام (المعلم) وإكرام (الطبيب) بكل الوسائل والصور والأساليب المتاحة.

***

لقد تكلمت في الجزء السابق من هذا المقال عن (المعلم) وأهمية دوره، وضرورة اتخاذ الإجراءات الفورية التي تعمل على تحسين راتبه الشهري وبدلاته المختلفة بحيث نثبت بهذه الإجراءات الفورية الضرورية أننا مجتمع متحضر وأننا أبناء تلك الأمة التي كان من أدبياتها: (من عَلَّمني حرفاً كنت له عبداً).

وسأخصص ما تبقى من هذا المقال ل(الطبيب) في بلادنا.

***

إن أحسن الإحصائيات تقول: إن الوظائف الطبية التي يندرج تحتها (الطبيب) و(طبيب الأسنان) و(الصيدلاني) و(حامل بكالوريوس العلوم الطبية التطبيقية) و(الممرض) من الرجال والنساء السعوديين لا يغطون من جسم مستشفيات الدولة على اختلاف الجهات التي تتبعها وكذلك المراكز الصحية، والمستشفيات والمستوصفات الخاصة.. إن أحسن الإحصائيات تقول: إن السعوديين والسعوديات من أصحاب هذه الوظائف يغطون ثلاثين بالمائة منها فقط!! وهذه الإحصائية مخيفة بل مرعبة تتطب منا أن نتأمل فيها جيداً ونجترح لها الحلول على المدى القريب، وعلى المدى البعيد.

***

إن المبادرة العظيمة التي قامت بها دولتنا الرشيدة بقيادة الوالد الملك المفدى عبدالله بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين الأمير سلطان بن عبدالعزيز بافتتاحها عدداً كبيراً من الجامعات، فانتشرت تلك الجامعات في وسط المملكة وشرقها وغربها وشمالها وجنوبها.. على قمم الجبال، وعلى شواطئ البحار، وفي السهول والصحارى، وفي كل جامعة منها كلية للطب وأخرى للصيدلة وثالثة للعلوم الطبية التطبيقية.. إن هذه المبادرة، بل هذه الخطوة التاريخية سيكون لها آثارها المهمة جداً، آثارها الإيجابية المؤثرة في الحاضر والمستقبل بإذن الله.

***

لكن أموراً ثلاثة قائمة الآن، تشكل مشكلات بارزة، وأعتقد أن حلها سيساعد في تحسين أحوال الأطباء ونظرائهم من أطباء الأسنان والصيادلة وغيرهم، وبث روح الطمأنينة والاستقرار في نفوسهم، وتثبيتهم في أماكنهم، وجعلهم لا يفكرون في الانتقال إلى البلدان العربية المجاورة الشقيقة للعمل فيها بعد الرواتب المغرية التي خصصتها لهم تلك البلدان..

***

المشكلات الثلاثة اثنتان منها تخص السعوديين والثالثة تخص المتعاقدين...

أما المشكلة الأولى فهي مشكلة راتب الطبيب في (سنة الامتياز) وهي السنة الأخيرة التي يمضيها الدارس طبيباً تحت التدريب قبل أن ينطلق بصورة رسمية إلى العمل..

لقد كان الراتب الشهري، (أو المكافأة) التي تدفع لطبيب الامتياز مبلغ عشرة آلاف وثمانمئة ريال، واستمرت على ذلك سنين عديدة، ولكنها وبقدرة قادرة، ودون مبررات خفضت هذه المكافأة، فأصبحت منذ حوالي سنتين ستة آلاف ريال.

وقد قوبلت هذه الخطوة الارتجالية الفجة غير المدروسة بالكثير من الاعتراض والاحتجاجات من أهل الفكر والرأي، حتى أن (مجلس الشورى) طرحها للمناقشة، وأعاد النظر فيها، ثم قرر منذ مدة طويلة إعادة هذه المكافأة إلى ما كانت عليه، أي أنه وافق على إعادتها إلى عشرة آلاف وثمانمئة ريال في الشهر، وهذا قرار حكيم، ورأي سديد يسجل لمجلس الشورى ورئيسه وأعضائه الكرام الذين يمثلون شرائح المجتمع المختلفة ونخبه الواعية المقدرة للمصلحة العامة لهذه البلاد..

والمطلوب تفعيل قرار مجلس الشورى بهذا الخصوص وتحويله إلى حيز التنفيذ في أسرع وقت ودون أي تأخير.

***

الأمر الثاني، أو المشكلة الثانية التي تخص السعوديين والسعوديات، هو أمر توحيد الرواتب بين الطبيب وزملائه الآخرين العاملين في القطاعات الطبية المختلفة كطبيب الأسنان والصيدلي والممرض وغيره ممن يشتغلون في مستشفيات وزارة الصحة، وبين الطبيب وزملائه العاملين في المستشفيات الأخرى، (كمستشفى الملك فيصل التخصصي) و(مستشفى الملك فهد للحرس الوطني) و(مستشفى القوات المسلحة) و(مستشفى قوى الأمن العام) والمعروف أن الأمر هذا، أمر توحيد الرواتب، قد صدر فيه توجيه سام كريم، أمر بمعالجته، وإنجاز ما يتم بخصوصه في أسرع وقت.. وأعتقد أن دراسة هذا الموضوع ومعالجته قائمة على قدم وساق، وأن هذا الموضوع مما يشغل وزارة الصحة -وفقها الله إلى كل خير- آناء الليل وأطراف النهار.

***

وعلى كل حال فقد علمت أن راتب الطبيب المقيم في (مستشفى الملك فيصل التخصصي) هو في حدود ستة عشر ألف ريال وهو أعلى الرواتب على ما أظن، وأن راتب الطبيب المقيم في (مستشفيات وزارة الصحة) هو في حدود اثني عشر ألف ريال. أي أن راتب (التخصصي) يزيد على راتب (الصحة) بحوالي ثلاث وثلاثين بالمائة.

والحل الصحيح الذي أقترحه على اللجنة المكلفة بدراسة هذا الأمر هو أن تتخذ من راتب (الطبيب) وزملائه الآخرين العاملين في (مستشفى الملك فيصل التخصصي) - ورواتب العاملي في هذا (المستشفى) هي أعلى الرواتب- أن تجعل من رواتب هؤلاء العاملين في (التخصصي) معياراً تعدل على أساسه رواتب العاملين في المستشفيات الأخرى التابعة لوزارة الصحة أو غيرها.

وإن كان لي من اقتراح في هذه القضية فهو الإسراع في إقرارها وإخراجها إلى حيز التنفيذ، فخير البر عاجله.

المشكلة الثالثة تخص الأطباء المتعاقدين ومن في حكمهم كالممرضين وغيرهم..

لقد قرأت قبل أيام خبراً مفاده أن بضعة عشر طبيباً ومثلهم أو أكثر منهم من الممرضين الذين يعملون في أحد المستشفيات التابعة إلى وزارة الصحة لم يستلموا رواتبهم منذ أكثر من ستة أشهر! وقد رفعوا بذلك ووجهوا برقيات إلى وزارة الصحة والشركات التي تقوم بتشغيلهم!

ويبدو أن هذا الأمر غير المقبول وغير المعقول موجود مثله في أكثر من مستشفى في بلادنا!!

***

ولو أننا قرأنا مثل هذا الخبر عن بلاد (الواق واق) أو عن المناطق التي كانت تسيطر جماعة (الماو ماو) في إفريقيا، لصدقناه واعتبرناه حالة طبيعية.. أما أن يحصل هذا الأمر، بل هذه الجريمة النكراء في بلادنا، في بلاد الحرمين الشريفين، في بلاد الأمن والأمان، في بلاد الخيرات والبركات، في البلاد التي يحكمها الملك العادل، والأب الحاني، والقائد الباني (عبدالله بن عبدالعزيز) ويعضده ولي عهده الأمين، الرجل الصادق، الرجل المخلص، الرجل الرحيم (سلطان بن عبدالعزيز).. فهذا هو الأمر الجلل، وهذا هو الأمر الخطير، وهذا هو الأمر الذي لا يكاد يصدق لولا أنه حقيقة واقعة مع الأسف الشديد!!!

إنني أتوقع أن هؤلاء الأطباء والممرضين المحرومين من رواتبهم الشهرية منذ أكثر من ستة شهور! إنني افترض أن أحدهم قد أنفق في الشهر الأول ما معه من مبلغ صحبه من بلده ليسد به حاجته وحاجة أسرته وأولاده.. ثم اقترض ممن حوله من أصدقاء ومعارف ليسد به حاجات الشهر الثاني فالشهر الثالث فالشهر الرابع.. وحينما حل به الشهر الخامس وجد أمامه الأبواب مغلقة والطرق مسدودة فقد صرف المبلغ الذي صحبه معه من بلاده، واقترض من كل أصدقائه القريبين، ومعارفه الأبعدين، ولم يبق أمامه إلا أن يفرش منديلا على باب مسجد جامع يوم الجمعة، يقف أمامه فيسأل الناس أن يعطوه وأن يتصدقوا عليه.

ويا أيها الإخوة الأحباب، ويا أيها المصلون الكرام لا تستغربوا إذا واجهتم بعد صلاة الجمعة وأنتم تخرجون من المساجد بعدما قضيت الصلاة.. لا تستغربوا إذا صادفتم أطباء أو ممرضين يسألون الناس إلحافاً على أبواب المساجد! لا تستغربوا ذلك فهؤلاء الأطباء والممرضون هم ممن يعملون مع شركات التشغيل الذاتي، لم تدفع رواتبهم منذ أكثر من ستة شهور، فأعطوهم مما أعطاكم الله، ولا تضطروهم إلى الإلحاف في السؤال، فهم من كرام الناس، وهم من عباد الله المحرومين!!

كنت في زيارة لبلد من البلدان الشقيقة التي لا تتحرك فيها معاملة من المعاملات من مكانها إلا بدفع مبلغ مالي، وقد تضايقت من هذا الأمر كثيراً، فقال واحد ممن يعملون في (تعقيب المعاملات): هوّن عليك فإن رواتب الموظفين في ذلك البلد لا تغطي أكثر من نصف احتياجاتهم الأساسية! ولذلك فإذا دفعت لأحدهم مبلغا من المال لتحرك به معاملتك التي بين يديه، فلا تظننّ أنها رشوة، بل اعتبرها (زكاة) من زكاة مالك، تدفع بها حاجة، وتسد بها رمقاً، وتساعد بها فقيراً، وتعين بها مسكيناً!! وقد تألمت كثيراً في هذه الفتوى وأمعنت النظر فيها ووجدت أنها شيء لابد منه!!

والآن، هل نعتبر أن هؤلاء الأطباء والممرضين وأترابهم ممن يعملون في خدمة شركات التشغيل الذاتي، المحرومين من رواتبهم منذ أكثر من ستة شهور.. هل نعتبرهم (مساكين) أو (فقراء) أو (غارمين) أو (أبناء سبيل) أو ممن يعملون (في سبيل الله) فنعطيهم من أموال الزكاة؟!!

***

إن الذي يمنع الناس حقوقهم، ويمتنع عن دفع رواتبهم في مواعيدها، إنسان منافق، وإنسان ظالم بكل المقاييس، ولقد حدثنا الرسول عليه الصلاة والسلام عن المنافق فقال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان).

والسؤال، أليس في العقد الموقع بين الطبيب أو الممرض وبين صاحب مؤسسة أو شركة التشغيل الذاتي (بند) يقول: على صاحب المؤسسة أو الشركة أن يدفع الراتب الشهري للممرض أو الطبيب عند نهاية كل شهر؟..

أليس هذا (البند) وعداً يجب تطبيقه والالتزام بمضمونه؟

فإذا طبق ونفذ فهذا هو المطلوب وكفى الله المؤمنين القتال. وإذا لم يطبق فهذا هو النفاق بعينه، والله سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).

***

والشركة التي تتهرب من دفع رواتب موظفيها من الأطباء والممرضين وغيرهم، وتماطل في أدائها إليهم، شركة ظالمة، والظلم ظلمات يوم القيامة.

والظلم من الأمور التي مقتها الله سبحانه وتعالى، وحرّمها على نفسه، فقد قال الله جل جلاله في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته محرّما بينكم فلا تظالموا). ويقول عليه الصلاة والسلام: (اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). ويقول الله لها: (لأنصرنك ولو بعد حين).

***

قارئي العزيز..

هذا هو حال كثير من الأطباء والممرضين المتعاقدين مع شركات التشغيل الذاتي.. فما هو حال العاملين المتعاقدين الآخرين من العمال العاديين وعمال الصيانة، وعمال النظافة، والسائقين، والعاملات في المنازل، وغيرهم وغيرهم.. إن فتح ملفات هؤلاء لا يرضي أحداً بالتأكيد.

لا يُرضي الله سبحانه تعالى، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو علاّم الغيوب.

ولا يُرضي حكومتنا الرشيدة، وهي التي اتخذت من الإسلام دستوراً ومنهج حياة، والإسلام يأبى الظلم، ويحارب النفاق، ويحرص على العدل، ويدعو إلى العمل الصالح..

ولا يُرضي مبادئ الحضارة، ولا قيم الإنسانية، ولا قواعد المدنية، فالله تعالى يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ). ويقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

إن حرمان الإنسان من أبسط حقوقه وهو أجره اليومي أو راتبه الشهري هو استبعاد له، واستخفاف بكيانه الإنساني الكريم، وقد قالها (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه للعرب والمسلمين وبني الإنسان جميعاً (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).

(*) للاتصال وإبداء الرأي


z_alayoubi@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد