Al Jazirah NewsPaper Sunday  20/04/2008 G Issue 12988
الأحد 14 ربيع الثاني 1429   العدد  12988
المثاقفة والتواصل بين الحضارات
د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني

يعرِّف علماء الاجتماع المثاقفة باعتبارها عملية اجتماعية، بأنّها دخول مجموعات من البشر ينتمون إلى ثقافات مختلفة في تفاعل فكري وثقافي وعلمي، يترتّب عليه حدوث تغيُّرات إرادية في بعض مكوّنات الأنماط الثقافية والفكرية والعلمية السائدة في الجماعات كلها أو بعضها، والمثاقفة

تعني استفادة الثقافات من بعضها بطريقة سليمة، وعن طريق الاختيار الحر الإرادي، والمثاقفة تختلف عن الغزو الثقافي الذي يتضمّن في طيّاته التمحور حول الذات، والرغبة في محو الآخر، وفرض الهيمنة عليه واستتباعه، ومعاملته بنظرة فوقيّة عدوانيّة متغطرسة، أمّا المثاقفة فتقوم على الندِّية والاحترام والتسامح والاعتراف بخصوصية الآخر واختلافه، وفي إطارها تتفاعل الجماعات والشعوب وتتواصل بهدف الاستفادة والإثراء العلمي والفكري المتبادل. وتقوم المثاقفة على الثقة والرغبة في التواصل والتقدُّم والتطوُّر واكتساب العلم والمعرفة، وأخذ المناسب والمفيد مما عند الآخر بحرية ودون إكراه أو ضغوط، وإذا كانت الشعوب مقتنعة ومؤمنة بعملية المثاقفة، فإنّها لا بدّ أن تقف ضد جميع أشكال الغزو الثقافي، والهيمنة والتعالي، والغطرسة، وقد عبَّر المهاتما غاندي عن ذلك في مقولته المشهورة التي يحفظها الكثيرون في مشارق الأرض ومغاربها: (إنني أفتح نوافذي للشمس والريح، ولكنني أتحدّى أيّة ريح أن تقتلعني من جذوري).

وبهذا تكون المثاقفة رافداً علمياً ومعرفياً وثقافياً تسعى من خلاله الشعوب للتحاور والتبادل المعرفي والثقافي، دون صِدام أو شعور بالدونيّة والضعف من قِبل البعض، أو شعور بالتعالي والغطرسة من قِبل البعض الآخر، فالجميع أبناء آدم، وآدم خُلق من تراب، وبهذا تتم عملية التأثير والتأثُّر في إطار خلاّق من الحرية، والإرادة الذاتية التي لا تمس الهوية ومكوِّناتها الأساسية، ولا تسعى إلى هدم الثقافة ومكوِّناتها المختلفة، وإنّما ؟؟؟؟؟ وقد كانت الثقافة الإسلامية رائدة في مجال المثاقفة لاعتمادها على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، وقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها)، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تحث على طلب العلم، وعمارة الأرض، واحترام حقوق الكائنات المختلفة، وقد شارك في بناء الحضارة الإسلامية شعوب وقبائل ينتمون إلى ثقافات فرعية مختلفة، بقي كثير منها محتفظاً ببعض خصائص ثقافته الفرعية، دون أن يجبر على تركها، إلاّ إذا كانت مخالفة لمعلوم من الدِّين بالضرورة، وأخذت حضارة المسلمين من الحضارات والثقافات الأخرى بقدر حاجتها، وبقدر ما يتلاءم مع قيمها وثقافتها ومعتقداتها، فترجموا الكثير من العلوم والمعارف، وأضافوا لها الكثير من إبداعاتهم، ولولا تلك الترجمة لضاع الكثير من معارف اليونان وعلومهم وفلسفتهم، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن الثقافات الأخرى التي احتفظت اللغة العربية ببعض تراثها وإنتاجها مثل الثقافة الهندية والفارسية والصينية.

وعملية المثاقفة تنمِّي المعرفة بالآخر، وتكسر حواجز العزلة والانغلاق والتقوقع على الذات، وتسهل تقارب الأمم والشعوب في إطار من الاحترام المتبادل، والأخذ والإعطاء بدون إجبار ولا إكراه ولا تعالٍ ولا كبرياء، وعن طريق عملية التثاقف يمكن بناء الثقة بين الأمم والشعوب، ويمكن تعزيز الصداقات بين الأفراد والجماعات، حيث يتفاعلون فيما يجمع بينهم من أفكار وقيم ومعارف وعلوم، ويعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه من عقائد ومذاهب وعادات وتقاليد وآراء.

وبهذا تقضي المثاقفة على حواجز الخوف، والشك، والعداوة، وتقوي القواسم المشتركة بين الأمم والشعوب، وهي كثيرة ومتعدِّدة.

وحتى تؤتي أُكلها، تحتاج عملية المثاقفة إلى استعداد متبادل من الجهات التي تدخل في تلك العملية، فهي تحتاج منا نحن المسلمين أن نملك القدرة والطريقة السليمة على تقديم ما عندنا للآخر دون تشنُّج، أو عنف، أو إكراه، وإنّما نتمثَّل قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ويجب على الآخر أن يتخلّى عن سياسة التعالي والغطرسة، وأن ينظر إلى إسهامات الآخرين في تطوير الحضارة العالمية، ومن ضمنهم المسلمون الذين كان لهم دور رائد وبارز في هذا المجال، ويمكن أن تقوم منظمات ومؤسسات لتفعيل عملية التثاقف، وقد وجد أنّ لكثير من المؤسسات في الشرق والغرب دوراً بارزاً في هذا المجال مثل مؤسسة الملك فيصل الخيرية، وجائزة نوبل، ومعهد جالوب لاستطلاعات الرأي، واليونسكو وغيرها، ولهذا يجب في عملية المثاقفة الابتعاد عن المقارنات، والابتعاد عن التفاخر، وأن يكون الهدف هو التعلُّم والتعليم، والاستفادة والإفادة في إطار من التواضع والاحترام والأخوة الإنسانية.

(*) أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية


zahrani111@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد